رقم 1 فقط هو ما يتحكم في كل الكون

12 يونيو, 2021 - 19:19

على الرغم من أن ما نمتلكه الآن من معرفة دقيقة بتركيب هذا الكون وأصوله يمثل أوج إنجازاتنا بوصفنا بشرا، لكنه لا يفسر سوى 5% فقط من تركيب الكون، ولا يشرح أشهر القوى الكونية الأربع التي نعرفها، وهي الجاذبية. يظن العلماء أن هناك خطأ ما يتخفّى في النماذج الرياضية التي قاموا ببنائها على مدى عقود، ولذلك فهم يحاولون قلب كل الأوراق الممكنة كي تظهر أي إشارة هنا أو هناك، في أثناء ذلك فإنهم يستكشفون خصائص بعض الأرقام التي لم نكن يوما لنتصوّر حجم تأثيرها في الكون كله، هذه المادة عن أحدها، وهو رقم نقي خالص يُشكِّل الكون بدرجة مذهلة من الدقة!

 

من بين كل الثوابت الأساسية في الكون، فإن سرعة الضوء التي يُرمز لها بحرف "c" تحوز كل الشهرة، ومع ذلك فإن قيمتها العددية لا تُخبرنا بأي شيء عن الطبيعة، إذ تختلف باختلاف وحدات القياس سواء كانت بالأمتار في الثانية أو بالأميال في الساعة.

على الجانب الآخر، نجد أن ما نعرفه باسم "ثابت البنية الدقيقة (fine-structure constant)" ليس له أبعاد أو وحدات، بل هو رقم نقي خالص يُشكِّل الكون بدرجة مذهلة من الدقة، وصفه الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان قائلا: "إنه رقم سحري حصلنا عليه دون فهم". أما بول ديراك -أحد عمالقة ميكانيكا الكم- فقال إن أصل هذا الرقم هو "المشكلة الأساسية التي لم تُحَل في الفيزياء بعد!".

ثابت البنية الدقيقة، والذي يشار إليه بالحرف اليوناني α (ألفا)، هو رقم قريب جدا من الكسر 1/137، ويظهر بوضوح في الصيغ الرياضية التي تحكم الضوء والمادة. يقول "إريك كورنيل" الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل في جامعة كولورادو: "في الهندسة المعمارية مثلا تظهر النسبة الذهبية "Golden Ratio" بوضوح، وكذلك في فيزياء المواد منخفضة الطاقة، التي تضم عمليات الذرات والجزيئات ومن ثم الكيمياء والبيولوجيا، توجد دائما نسبة من الأحجام الأكبر إلى الأصغر، تميل هذه النسب إلى أن تكون مضاعفات لثابت البنية الدقيقة".

 

يأتينا هذا الثابت من كل مكان، فهو يصف القوة الكهرومغناطيسية، والتي تؤثر على الجسيمات المشحونة مثل الإلكترونات والبروتونات (الموجودة في كل مكان، الكرسي الذي تجلس عليه والهاتف الذي تمسك به وجسدك نفسه والمجموعة الشمسية وكل المجرات). قال "هولجر مولر" الفيزيائي بجامعة كاليفورنيا في بيركلي: "إن كل شيء يحيط بنا في عالمنا اليومي إما خاضع للجاذبية، أو للقوة الكهرومغناطيسية، وهذا هو سبب أهمية ألفا، أو ثابت البنية الدقيقة".

ونظرا إلى أن نسبة 1/137 هي قيمة ضئيلة، فإن تأثير القوة الكهرومغناطيسية ضعيف، ونتيجة لذلك تُشكِّل الجسيمات المشحونة ذرات معظم مساحاتها فارغة، تدور إلكتروناتها في مدارات بعيدة عن النواة، فيسهل أن تنفصل عن الذرة، ما يؤدي إلى تكوين الروابط الكيميائية (ما الروابط الكيميائية الأساسية إلا تبادل إلكترونات بين الذرات).

على الصعيد الآخر، نجد أن الثابت أيضا كبير بما يكفي لِيُثير بين الفيزيائيين جدالا حول النسبة التي لو كانت أقرب إلى 1/138 فلن تتمكن النجوم من تخليق الكربون، ولن تتشكل الحياة على هيئتها المألوفة لنا.

 

وعلى الرغم من تخلي الفيزيائيين -إلى حدٍ ما- عن هوسٍ عمره قرن من الزمان حول مصدر القيمة الصائبة الدقيقة لألفا (بسبب صعوبة الأمر)، بالإضافة لاعترافهم الآن بأن قيمة الثوابت الأساسية يمكن أن تكون عشوائية وتُحَدد بلفات النرد الأولية عند ولادة الكون، فإن هدفا جديدا لاح في الأفق.

 

يرغب الفيزيائيون في قياس ثابت البنية الدقيقة بأكبر قدر ممكن من الدقة، فهو موجود في كل مكان، وبذلك فإن القياس الدقيق له يتيح للفيزيائيين اختبار نظريتهم حول العلاقات المتبادلة بين الجسيمات الأولية (الجسيمات التي تشكل مادة الكون التي نعرفها بالكامل)، نتحدث هنا عن مجموعة من المعادلات المهيبة المعروفة باسم "النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات (Standard Model of particle physics)".

من جانب آخر، فإنه إذا ظهر أي اختلاف بين القيم المقاسة بدقة فائقة لعلاقة الجسيمات بعضها ببعض، فيمكن أن يشير ذلك إلى جسيمات جديدة لا نعرف عنها شيئا بعد، أو ربما تأثيرات لا تأخذها المعادلات القياسية بعين الاعتبار أو فقط لا تهتم لها. يُعرِّف "كورنيل" هذه الأنواع من القياسات الدقيقة على أنها طريقة ثالثة للاكتشاف التجريبي للمبادئ الأساسية للكون، إلى جانب أدوات مثل "مصادمات الجسيمات" و"التلسكوبات".

في ورقة بحثية نشرتها مجلة "نيتشر (Nature)" مؤخرا، أعلن فريق من أربعة فيزيائيين بقيادة سعيدة جيلاتي خليفة في مختبر كاستلر بروسل في باريس عن القياس الأكثر دقة حتى الآن لثابت البنية الدقيقة. ووجدت أن قيمة الثابت تظهر في 11 رقما، إذ وصلتْ قيمة ألفا لـα = 1/137.035999206 (الرقمان الأخيران -الصفر والستة- غير مؤكدين).

 

مع خطأ يبلغ قدره 81 جزءا فقط لكل تريليون، أصبح القياس الجديد أكثر دقة بثلاث مرات تقريبا من أفضل قياس سابق لعام 2018 قامت به مجموعة مولر في جامعة بيركلي، وهي المنافِس الرئيسي لهذا الفريق (أجرت جيلاتي خليفة القياس الأكثر دقة قبل قياس مولر في عام 2011). وقد علّق مولر على مقياس ألفا الجديد لمنافسه قائلا: "دقته تبلغ ثلاثة أضعاف، وهذا أمر جلل، فلا داعي للخجل من وصفه إنجازا ممتازا بالطبع".

عملت جيلاتي خليفة على تحسين تجربتها على مدار الـ22 عاما الماضية، إذ كانت تقيس ثابت البنية الدقيقة عن طريق فحص قوة ارتداد ذرات الروبيديوم عند امتصاصها لأحد الفوتونات (يقوم مولر بالشيء نفسه مع ذرات السيزيوم). سرعة الارتداد هذه تعبر عن ثقل الذرة، وهو أصعب عامل يمكن قياسه لأجل التوصل إلى قيمة لثابت البنية الدقيقة. أوضح مولر قائلا: "إن عنق الزجاجة دائما هو أقل القيم دقة (أصعبها)، أي تحسن في قياسها يؤدي بالتبعية إلى تحسين قيمة ثابت البنية الدقيقة".

بدأ هذا الفريق من الباحثين، في باريس، بتبريد ذرات الروبيديوم تقريبا إلى الصفر المطلق، ثم ألقوها في حجرة مفرغة، وأثناء سقوط سحابة الذرات هذه استخدم الباحثون نبضات الليزر لوضع كل ذرة منها في تراكب كمي لحالتين، حالة اصطدمت خلالها بفوتون، وحالة لم تصطدم خلالها بفوتون (التراكب الكمّي [Superposition] هو ظاهرة في العالم الكمّي تعني أنه يمكن للذرة أن تُوجد في عدة حالات بالوقت نفسه).

 

بعد ذلك تنطلق نسختان لكل ذرة في مسارين منفصلين، ثم تُستخدم المزيد من نبضات الليزر لدفعهما للالتقاء معا. في تلك الحالة فإنه كلما زاد ارتداد الذرة عند اصطدامها بفوتون، زاد اختلافها في الطور عن نسختها الأخرى التي التقت بها للتو ولكنها لم تصطدم بالفوتون.

قاس الباحثون هذا الاختلاف لحساب سرعة ارتداد الذرات، وقالت جيلاتي خليفة معلقة على ذلك: "نستنتج من سرعة الارتداد كتلة الذرة، والتي تستخدم بدورها في تحقيق قياس مباشر لثابت البنية الدقيقة".

في مثل هذه التجارب الدقيقة تعد كل التفاصيل مهمة، ويوضح أحد الجداول بالورقة البحثية الخاصة بالفريق ما يسمى بـ"ميزانية الخطأ"، وهي 16 مصدرا للخطأ وعدم الدقة من الممكن أن تؤثر على القياس النهائي، ويتضمن ذلك الجاذبية وقوى كوريوليس الناتجة عن دوران الأرض، وقد قيس كلاهما بعناية ووُضِعا في الاعتبار، لكن جزءا كبيرا من ميزانية الخطأ معني بعيوب الليزر، لذلك أمضى العلماء سنوات عديدة لتحسينها باستمرار.

 

أصعب ما واجه جيلاتي خليفة وفريقها هو معرفة متى تتوقف عن القياس وتتجه لنشر ورقتها البحثية، كان ذلك في يوم 17 من فبراير لعام 2020، في الوقت الذي انتشر فيه فيروس كورونا في فرنسا. وردا على سؤال ما إذا كان قرار النشر هو بمثابة قرار فنان حول الوقت الذي يرى فيه اللوحة مكتملة، أجابت جيلاتي خلفية: "بالضبط، يشبه الأمر قرار الفنان حول اكتمال لوحته، هذا ما حدث بالضبط".

المثير للدهشة أن قياس جيلاتي الجديد يختلف عن نتيجة مولر لعام 2018 في الرقم العاشر، ويمثل ذلك تباينا أكبر من قيمة الخطأ المسموح به في كلا القياسين، وهذا يعني -باستثناء بعض الاختلافات الجوهرية بين الروبيديوم والسيزيوم- أن أحد القياسين أو كليهما به خطأ غير محسوب. ولأن قياس مجموعة باريس هو الأكثر دقة نجده يحظى بالأولوية في الوقت الحالي، ولكن كلا المجموعتين ستعمل على تحسين إعدادها والمحاولة مرة أخرى.

نوّه مولر أنه لا يمكن لأي شخص بناء مصادم عالي الطاقة بمفرده، مثل مصادم الهادرونات الكبير في أوروبا

وعلى الرغم من اختلاف القياسين، فإنهما يتطابقان تطابقا وثيقا مع قيمة ألفا المُستَنبطة من القياسات الدقيقة لـ"مُعامل جي (g-factor)" للإلكترون، وهو ثابت مرتبط بعزمه المغناطيسي، أو عزم الدوران الذي يختبره الإلكترون في المجال المغناطيسي.

وقال كورنيل معلقا على ذلك: "مع الكثير من الرياضيات، يمكنك ربط ثابت البنية الدقيقة بـ"المُعامل جي"، إذا فقدت بعض التأثيرات الفيزيائية من المعادلات (الخاصة بالنموذج القياسي)، فسنحصل على إجابة خاطئة".

لكن بدلا من ذلك، نكتشف أن جميع القياسات في توافق تام، ما يستبعد إلى حد كبير بعض الافتراضات الخاصة بوجود جسيمات جديدة. رحّب علماء هذا النطاق، في عام 2018، بالاتفاق بين أفضل قياسات المعامل جي وقياسات مولر، باعتباره أعظم انتصار للنموذج القياسي. وعلّقت جيلاتي خليفة بشأن تطابق نتيجتها الجديدة بشكل أفضل مع التوقعات قائلة: "إنه أفضل توافق بين النظرية والتجربة".

مع ذلك، شرع كلّ من جيلاتي خليفة ومولر في إجراء المزيد من التحسينات. تبنى فريق بيركلي جهاز ليزر جديدا بشعاع أفضل (ما يسمح لهم بضرب سحابة من ذرات السيزيوم بالتساوي)، في الوقت الذي يخطط فيه فريق باريس لاستبدال حجرة التفريغ ضمن تحسينات أخرى.

ردا على سؤال أي نوع من الأشخاص قد يبذل مثل هذا الجهد المضني في مقابل هذه التحسينات الضئيلة، أوضحت جيلاتي خليفة ثلاث سمات: "عليك أن تكون دقيقا، ومتحمسا، وصادقا مع نفسك". وردا على السؤال نفسه، أجاب مولر: "أعتقد أنه أمر ممتع للغاية، لأنني أحب بناء معدات لامعة وجميلة، وتطبيقها على أشياء مهمة".

نوّه مولر أيضا أنه -بالطبع- لا يمكن لأي شخص بناء مصادم عالي الطاقة بمفرده، مثل مصادم الهادرونات الكبير في أوروبا (وهو أضخم معجّلات الجسيمات في العالم وأعلاها طاقة وسرعة)، الأمر كذلك في حالة بناء وتنقيح أداة لقياس فائق للدقة، لكن إجراء قياسات دقيقة، ذات صلة بالفيزياء الأساسية، يمكن أن يحدث بشرط تعاونه مع ثلاثة أو أربعة أشخاص آخرين فقط.

_________________________________________________________

هذا التقرير مترجم عن: The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع الساحة.

المصدر : الجزيرة

 

 

 

 

 

 

اعلانات