قضية لحراطين

29 سبتمبر, 2017 - 06:28
محمد افو

هناك لغز رياضي بسيط يقول :
أن ثلاثة أفراد أرادوا شراء سلعة ب 255 أوقية ، فدفع كل واحد منهم عشرة أواق لصاحب الدكان ، فرد صاحب الدكان لكل واحد منهم أوقية واحدة ووضع أوقيتين على الطاولة ليتقاسمها الثلاثة بطريقتهم .
فسأل أحد الثلاثة صاحب الدكان عن الطريقة التي حسم بها القسمة ، فقال صاحب الدكان بأنه استلم 30 أوقية ورد خمسة اواق سلم منها ثلاثة بالتساوي ووضع إثنتان على الطاولة .

فادعى الزبون دعوى أخرى ، وهي أن كلاًّ من الثلاثة دفع 10 أواق ورجعت له منها واحدة ، وهو يعني أنه دفع تسعة أواق من جيبة ، وبضرب تسعة في ثلاثة يكون الثلاثة دفعوا 27 أوقية ، تضاف للأوقيتين على الطاولة فيكون الإجمالي 29 أوقية فأين ذهبت الأوقية المتبقية ؟

في هذا الإشكال يكون صاحب البقالة صادقا لكونه لم يأخذ غير ثمن السلعة ( 25 ) ، ويكون العملاء الثلاثة أيضا منطقيين في تساؤلهم عن مصير الأوقية الناقصة .

لا أنكر أن الحديث عن القضايا ذات البعد الإجتماعي الراسخ ، من أكثر القضايا حساسية ، والحديث عنها يعتبر في غالب الأحيان تسمما سياسيا يصل لدرجة الإنتحار .

لكن دافع الخوف من وضع النقاط على الحروف يشكل حضناً آمنا لتخلق الأزمات ونموها .

وليست هناك قضية لا تتنازعها أطراف ، وكلما تباينت وجهات نظر هذه الأطراف كلما أخذت القضية حجما أكبر وشكلت خطابا أكثر راديكالية .

ولن أتعرض في هذا المنشور لتاريخ هذا الإشكال وإنما لنسخته المعاصرة .

فهناك من يقول أن العبودية أصبحت من الماضي وهناك من يقول بأنها لازالت قائمة ، وبين القولين تنابز شكلي يتجاهل ماهو أعمق من ممارسة العبودية أو عدم ممارستها .

ألا وهو أنماط العبودية الحديثة .
والتي تحدث بإرادة المفاهيم الأكثر تجبرا وهيمنة من إرادة الفرد وحتى من إرادة المجتمع .

فاحتكار مقومات الإرادة لا يتم وفق استراتيجية مخطط لها أو أخرى تآمر على إنفذها مجتمع أو فئة .

بل يتم وفق إرث مفاهيمي مهيمن ، يتكثف بتحالف هذا الإرث مع الفساد .

فإرادة المفاهيم هي من تجعل إبن الحمال حمالا وإبن " مول شاريت ، مول شاريت " وهي التي تجعل من إبن الوزير وزيراً وإبن الضابط ضابطا .

إنه توارث ليس فقط للمكانة الإجتماعية وإنما توارث للفرص وأنماط العيش .

ليس هناك من يريد أن يلجم أبناء فئة إجتماعية و يغدق على أخرى كي يُستعاد التوازن ، وإنما يجب أن تتساوى حقوق التأهيل للفرصة وتركها مفتوحة أمام الجميع .

لابد لإبن الحمال من مدارس تؤهله لمنافسة أترابه على الفرص المتاحة للعيش الكريم .

ويترتب على ذلك أن يكون للحمال دخل يغنيه عن الحاجة لتشغيل أطفاله والتكفل بكل حاجاتهم وفي حدود آمنة .

وهذه المهمة تتجسد في إرادة السلطة والمجتمع معا.
أدرك جيدا نجاعة السياسات الليبرالية في خلق فرص العمل ودرر الضرائب وجلب الإستثمارات .

لكن وقبل إتاحة فرص العمل كان ينبغي التأهيل العادل لإقتناصها .

لا أحد يمكنه أن يتنكر لحقيقة انتشار الجهل في تجمعات "آدوابة" ولا لما ينتج عن ذلك من حرمانهم من التوظيف وفرص الحياة الكريمة المترتبة على التعليم والتأهيل .

ونتيجة لاعتراف جلي كذلك ، لا يمكن لوطني منصف إلا أن يدرك أن الحرمان من تلك الفرص هو حرمان من الوطن والثروة معا .

ليس علينا تجاهل هذا الوضع الذي تم تصميمه لتوارث الفقر والغنى وتوارث المعرفة والجهل .

وما يمنح هذا الوضع تعقيدا أكبر ، هو سهولة التنصل من مسؤوليته .

فالفرد يمتلك حجة براءة منطقية تمكنه من القول بأنه غير معني برفاه ولا تعليم أحد غير أبنائه ، وأنه لم ولا يستعبد أحداً.

والمجتمع يمكنه التنصل بتقمص دور الفرد ، إذ ليست هناك جهة اعتبارية تدعى "المجتمع" يمكن تحميلها مسؤولية مباشرة وبالتالي تكليفها بالحل أو معاقبتها على الخلل .

أما الدولة فستتنصل بمنطقية أخرى وهي القول بأنها تفتح مدارسها أمام الكل ولا يمكنها منع أي مواطن من الإنفاق على تدريس أبنائه .
وأنها بالإضافة لذلك تفتح مسابقاتها الوطنية للتوظيف دون تمييز فئوي ، وبالتالي غير مسؤولة عن شكل الحصيلة .

وبهذا المنطق المخل يسهل أيضا سؤال لحراطين " لماذا لم تعلموا أبناءكم ؟ "

لكن السائل يعرف الإجابة جيدا ، حتى لو بدى السؤال مفحماً.

كل هذه الأطراف لا يمكننا اعتبارها غير مسؤولة رغم سهولة تنصلها من المسؤولية أومنطق هذا التنصل .

إذ لا يمكن أن يكون هناك طرف آخر في هذه القضية غيرهم .

وهذا ما يجعلني أقول بضرورة تكاتف الإرادة ووعيها من الدولة والمجتمع معا .

وفي القضايا الوطنية ينبغي أن يبحث الكل عن مسؤولية يتحملها بدل أن يستسهل المخارج للتنصل منها .

ينبغي أن نعيد هندسة الوضع برمته ليتساوى الجميع أمام الفرص .
وأن نقطع الطريق على احتكار الجدارة والأهلية ، لأننا بذلك نشرع الإمتياز بالوراثة ، ونمنح الطبقية عمرا آخر ، ونحرم البعض من حقه في الوطن ، ونحرم الوطن من سواعد وعقول مغيبة في قضية مقيدة ضد مجهول .
وحل قضية لحراطين هو إثراء للوطن بكل طاقات أبنائه ، وحق لهم كما هو حق لكل مواطن يحلم بوطن يتساوى فيه الحق والواجب والفرصة أمام الجميع .
ليس المهم كيف ضاعت الأوقية ولا هل ضاعت أصلا.
المهم أن نحسب الحقوق بشكل واضح وشفاف بدل ابتكار صيغ التنصل .

محمد افو
#المشروع_الوطني_أملنا

 

 

 

 

 

 

اعلانات