المدرسة القُدُّوسيّة!

9 ديسمبر, 2018 - 12:46

إنَّ الشيخ الخديمَ ـ رضي الله عنه ـ لم يَدعُ النّاسَ إلى دينٍ جديدٍ، ولم يُؤسس الطريقة المريدية ـ إن صحّ التّعبير ـ لتكون مُستنقعا للبدع والدَّعاوى، وإنما ليُعلِّم الناس ويُزكيهم، ويربيهم على ما ربى به النّبيّ –صلى الله عليه وسلم- أصحابه من عبادةِ الله على علمٍ وبصيرة، بتخليةِ القلوب من الرّذائل، وتحليتها بالآداب والفضائل، عن طريق مجاهدة النفوس وفطمها من الشهوات والعوائد بالجوع الطويل والسهر الدائم ومداومة الذكر آناء الليل وأطراف النهار.
وقد ربَّى الشيخ ـ رضي الله عنه ـ أصحابَه على ذلك، فتخرَّج على يديه طائفةٌ، كانوا من العلماء العاملين، وعلى مستوًى عالٍ من التقوى والزهد والورع؛ فلم يتكالبوا على العاجلة، ولم يشغلهم الهوى والشهوات عن الآجلة، بل ظلوا صابرين، مصابرين، مرابطين، متقين لله، متشبثين بالحق؛ فكلّ منهم كان يرجو لقاء ربّه ويعمل عملًا صَالحًا، ولا يشرك بعبادة ربِّهِ أحداً!
كانت هذه النخبة الذين سلكوا على يدي الشيخ الخديم ـ رضي الله عنه ـ يمتازون عن غيرهم بِعدّةِ مَزايَا؛ فقد كانوا يتحابُّون في الله، ويتناصحون فيه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، متعاونين على البر والتقوى، عاضين على الشريعة المطهرة بالنواجذ، متمسكين بمكارم الأخلاق؛ فصغيرهم يوقر كبيرهم، وكبيرهم يرحم صغيرهم، مع سلامة الصدر ونية الخير لكل أحدٍ، فضلا عن الحلم والصفح واتّراك التعدي والظّلم، ونبذ العنفِ بالعَراء!
فمن منَّا ـ مُريدي العصر ـ يُجاري الشّيخ مام مور جارة الكثير الصلاة والتلاوة، أحد فرسان الليل، الذي كان وردُه كلَّ ليلةٍ مائة ركعةٍ ، أو الشيخ إبراهيم فاطِ مباكي في تَقيُّدِه بالشريعة المطهرة والحقيقة المنورة والذي لم يكن يرضى أبدًا أن يدخل أحدُ أتباعِه باب المسجد إلا بعد أن يتوضّأ ، أو الشيخ عبد الرحمن لوح الذي كان يقومُ بالقُرآنِ كَمَلًا كلَّ ليلةٍ في ركعتين ، أو الشيخ مباكي بوسو  في ورعه الَّذي قال فيه الشيخ الحاج مالك التجانيّ:"لو لم يكن لي دليلٌ على كمال الشيخ أحمد بامبا إلا صدق عقيدة امباكي بوسو فيه وسلوكه على يديه مع معرفتي لَهُ لكفاني حجة "،  أو الشيخ الحسن انجاي الذي كان:"صوّامًا قوّامًا لا يفتر عن القرآن، دائم الاعتزال "، أو  الشيخ إبراهيم فال في صدقه وعلوّ همته وقُوّة إرادته، أو الشيخ سيدي المختار ـ مام شيخ أنت ـ في حُبِّه الجمِّ لشيخه وسلامة القلبِ وَأَريحيتِه في الإنفاق في سبيل الله، أو أبناءهُ كالشّيخ محمد المصطفى والشيخ محمد الفاضل والشيخ محمد البشير الذينَ باعوا البُنوَّة بالإرادةِ وأخلصوا في خدمته حتى أتاهم ـ رحمهم الله ـ اليقين!
إنهم ـ لا جرم ـ جسّدوا المريدية في أبهى صورةٍ، وقدّموا المثل الأعلى في التوحيد الخالص، والعمل الصالح والخلق الحسن، ولله درُّ الأديب القاضي مجخت كل التجانيِّ حين ينعتهم في قصيدته الضادية المشهورة التي يقول فيها:[من الطويل]
مُرَبَّوْنَ قَدْ غَضُّوا مِن اَصْواتِهم غَضَّا = كأبصارِهِم حتَّى يُظَنُّوا معًا مَرْضَى
أرَادوا أطبَّا أَوْ مَسَاكِينَ هَمَّهُمْ = ذَوُو صَدَقَاتٍ مُقرِضُو رَبِّهمْ قَرْضَا
إلى أن يقول:وَلَـمْ يَلْقَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَجْنَبِيَّةً = تُحَاذِيهِ إِلَّا وَهْوَ أَطْرَقَ أَوْ أَغْضَى
وَمَا رَفَعُوا الْأَصْوَاتَ إِلَّا بِذِكْرِهِمْ = وَمَا أَخَّرُوا الْأَوْقَاتَ نَفْلًا وَلَا فَرْضَا
وَتَاللهِ لَوْ أَنَّ الْـمُرَبِّـيَ قَادَهُمْ = لِيَنْفُوا عَنِ الْأَرْضِ الْعِدَى زَلْزَلُوا الْأَرْضَا
والعجيب أنك حين تتصفح سيرهم تجدهم على هدي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، طِبْقَ المريدين الذين يصفهم الشيخ ـ رضي الله عنه ـ في كتاباته، ولاسيما في تائيته المشهورة «حقَّ البكاءُ»، فكأنهم المعنيّون والمُشارُ إِليهم بالبنان، وإن شِئتَ فقل – كما قال الشيخ محمد البشير - «كانوا والله فتية صدق أشبه شيء بفتية الكهف عليهم رضوان الله، تعالى»
وهذا، هو ما دَعا إليه الشّيخُ الخديمُ ـ رضي الله عنه ـ، المعبّر عنه بـ«المريدية»، وهو أيضا « المدرسة» التي يشير إليها بقوله: [من البسيط]
بِالمُصْطَفَى لِي بَنَي الْقُدُّوسُ مَدْرسةً= بِهَا يَزولُ الأَذَى والجهْلُ والكبدُ!
وهي مدرسةٌ ينخرط في سلكها كل مَا كان على سَمْتِهَا؛ من المؤسسات التي تعنى بالتربية والتعليم، إلى المستمسكين بعروتي الشريعة المطهرة والحقيقة المنورة، أو بالعلم النافع والعمل الصالح والأدب المرضى، أو بالإيمان والإسلام والإحسان، وهمُ المراعون لِحقوق الحق وحقوق الخلق من غير وكسٍ ولا شطط!
-----------------
أبو مدين شعيب تياو الأزهري الطوبوي

 

 

 

 

 

 

اعلانات