أين أوقّع؟ خربشات على هامش الأخبار

21 سبتمبر, 2020 - 11:32

في تجليات الوعي العربي الإسلامي بالمسألة الإسرائيلية دليل من أقوى الأدلة على أن الواقع ليس كل الحقيقة، وإنما هو جزء منها فقط. الواقع التاريخي قد يملأ الأفق وقد يستغرق الإدراك، ولكنه لا يستنفد الحقيقة الوطنية أو الإنسانية. إذ يعلم العرب والمسلمون أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قد نجحت منذ عام 1967 في التحقيق التدريجي لمعظم غاياتها الاستراتيجية وأن قوتها التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية قد تضاعفت مرارا على مدى العقود الخمسة الماضية، وأنها نجحت في تحييد أكبر دولة عربية (مصر) وإخراجها من معادلة الصراع وتحويلها إلى مجرد وسيط (بل وحتى إلى نصير ضد الفلسطينيين)، كما أنها نجحت في تسخير إدارتي كلنتون وبوش لغرض إنضاج شروط تدمير أقوى دولة عربية (العراق) ثم استثمرت الجهد اللازم مع الأجهزة الأمريكية في خلق الوحش الإجرامي الداعشي الذي ضمن استكمال تدمير سوريا، إضافة للإبقاء على حاكمها الاسمي باعتباره ذخرا أمنيا لإسرائيل لا يقل، في أهمية خدماته، عن «الكنز الاستراتيجي» الذي كان يمثله مبارك قبل أن يرث عنه السيسي الدور بحماس أكبر في الأداء وبمواهب أبرز في الغباء. ويعلم العرب والمسلمون أن استخبارات دولة الاحتلال قد اخترقت كل الدول العربية والإسلامية منذ زمن بعيد وأنها تمكنت في السنوات الأخيرة من تعزيز هذا الاختراق وتنويع سبل زعزعة الأمن العربي والإسلامي، هذا فضلا عن تحقيقها بعض التقدم في حملاتها الدعائية الرامية لاستمالة الجمهور وغسل العقول في العالم العربي، سواء في الإعلام التقليدي أو على منصات التواصل الاجتماعي.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون عمليات التطبيع العلني الأخيرة (التي سبقها ويواكبها تطبيع غير معلن لا يزال مستمرا بين معظم الدول العربية ـ وخصوصا دول الخليج ـ وإسرائيل) موجهة في الأساس ضد تركيا وإيران. لماذا؟ لأن في المنطقة طيفا واسعا من الكيانات الملكية والجملكية ومن التشكّلات السلطوية القروسطية. أما الدول، فإنه لا يوجد منها إلا ثلاث: تركيا وإيران وإسرائيل. هذه هي البلدان الوحيدة التي ينطبق عليها مفهوم الدولة، باعتبارها الكيان السياسي القادر على رسم سياسات استراتيجية بعيدة المدى والقادر على تسخير الموارد اللازمة لتنفيذ هذه السياسات سواء في سرّاء التقاربات والتحالفات أم في ضرّاء المنافسات والعداوات. ولهذا فليس لدولة الاحتلال من خصم حقيقي في المنطقة إلا تركيا وإيران، بصرف النظر عن اختلاف عنواني الحالة الرسمية: علاقة دبلوماسية مع الأولى وعداوة معلنة مع الأخرى.

يعلم العرب أن استخبارات دولة الاحتلال قد اخترقت كل الدول العربية منذ زمن بعيد وأنها تمكنت في السنوات الأخيرة من تعزيز هذا الاختراق وتنويع سبل زعزعة الأمن العربي

والمفارقة أنه إذا كان التطبيع بالنسبة لبعض حكام الخليج مجرد تكتيك قريب المدى قصير النظر للحفاظ على الحكم والاستقواء على العدو الفعلي أو الوهمي (إيران، تركيا، الإسلاميون، الفلسطينيون، المواطنون الذين انتفضوا والذين قد ينتفضون، الخ)، فإنه ليس كذلك بالنسبة لدولة الاحتلال. وإذا كانت التواقيع التطبيعية الأخيرة في البيت الأبيض (وما رافقها من مشاهد تطرب لها الكاميرات لأنها نادرة حتى في الأحلام، أي مشاهد الاضطرار إلى الاستنجاد بترامب: يا ترى، أين أوقّع؟ ولامبالاة ترامب عندما أعرض بوجهه وأشاح، كأنه في شغل شاغل عن السؤال والسائل) مجرد خربشات على هامش الأخبار لن يلبث أن يمحوها التاريخ بمكره وخداعه الدائبين، فإنها تمثل بالنسبة لإسرائيل اختراقا استراتيجيا على أصعدة شتى، ليس أقلها الأمن والطاقة والاستثمارات.
يعرف العرب والمسلمون كل هذه الحقائق. إلا أن معظمهم يؤمن، بصدق الحس الشعبي، أن الكيان الصهيوني لن يعمّر طويلا. ولا يعني هذا أن جميعهم يصدقون التوقعات الشائعة عن قرب زوال دولة الاحتلال (بعض التوقعات يحدد عام 2027، وبعضها الآخر عام 2057، موعدا لزوالها)، ولا يعني هذا أن جميعهم دارس للمأثورات الدينية التي يبدو، تأويليّا، أنها تنبأت بهذا المصير أو مطّلع على النصوص الأدبية اليهودية المعاصرة التي تظهر أن مسألة نهاية إسرائيل متجذرة في الوجدان الصهيوني تحاصره وتؤرقه، مثلما أثبتت دراسات عبد الوهاب المسيري رحمه الله. إذ ليس في ما يعتقده الضمير العام لزوم لمقدمات ونتائج، وما بالحس الشعبي من حاجة إلى استدلال منطقي أو تحليل نصّي، وإنما هي طمأنينة الإيمان الراسخ بأن هذا الوحش الإسبرطي المدجج بخوارق الإيديولوجيا والتكنولوجيا لا يمكن أن يطول به المقام بل إنه سيمضي كما مضت الممالك الصليبية من قبل، وأن هؤلاء القادمين من كل حدب لن يمكثوا في الأرض وإنما هم زائلون في غثاء زائل و«عابرون في كلام عابر» عبورا كولونياليا عصريا زاعما وصلا ونسبا بأساطير العبور العبراني الأصلي.

كاتب تونسي

 

 

 

 

 

 

اعلانات