
في ليلة شتوية باردة يمكن لك أن ترى حتى ثلاثة آلاف نجمة حينما ترفع رأسك لسماء الليل، تلمع كقطع ألماس صغيرة، وتتألق باعثة في أرواح البشر مزيجا من الرهبة والهدوء. تحتوي مجرة درب التبانة، بيتنا السماوي، على حوالي أربعمائة مليار نجم، وهي فقط واحدة من تريليوني مجرة، حد علمنا، في هذا الكون الواسع. لكن، هل تعرف أن كل تلك النجوم والكواكب الموجودة في الكون تمثل فقط(1) ما يبلغ مقداره النصف في المائة من تركيبه؟
نعم، وحينما نضيف السحب الغازية البين – نجمية الضخمة في جوانب المجرات لتلك النصف في المائة فإن نسبة المادة في الكون ترتفع إلى ما يبلغ مقداره فقط خمسة بالمائة من تركيب الكون، هذا هو ما نعرفه فقط، قد يكون ذلك صادما قليلا في إطار ما نعرفه عن التطورات العلمية خلال السنوات الأربعمائة الأخيرة، لكنها الحقيقة، أما حينما نضيف ما نعرفه عن كم المادة المظلمة يصبح 23% تقريبا، لكن ما الذي يوجد في 72% الباقية من تركيب الكون؟
يوجد ما "نعرف" أننا "لا نعرفه" بعد، لكن لفهم تلك الجملة المتناقضة جيدا نحتاج أن نعود بالزمن إلى نقطة انطلاق علم الكونيات المعاصر، ألبرت أينشتين، كانت المشكلة ببساطة أنه بعد أن صاغ النسبية العامة، النظرية التي تعيد تشكيل نظرتنا عن الجاذبية فتجعلها صفة للفضاء نفسه وليست لسكّانه، نجد أنه حينما نقوم بتطبيقها على الكون ككل فإنه لا يمكن له أن يكون مستقرا، ثابتا في الحجم، بل سوف يستمر في التمدد أو ينكمش على ذاته، وكان أينشتين مقتنعًا أن ذلك غير ممكن(2)، ربما هو خلل حسابي ما يجب ضبطه، فأضاف لمعادلاته ما يُعرف بـ "الثابت الكوني".
والثابت الكوني هو رقم، استخدمه أينشتين لضبط معادلاته بحيث تسمح بوجود كون ثابت، يشبه الأمر -ليس بالضبط ولكن فقط للتقريب- أن تستعين بجهاز ليمنع باب المحل الخاص بك من أن يستمر مفتوحًا للداخل أو الخارج، فإذا دفعه أحدهم أو جذبه أثناء الدخول أو الخروج سوف يعيده هذا الجهاز المثبت بالأعلى إلى نقطة استقرار ثابته، لكن في تلك النقطة من حديثنا معًا، وقبل الاستمرار في ما قد يبدو أنه أعمق من ذلك، سوف نبدأ في التساؤل عن ماهية هذا التمدد والانكماش، فإذا كان الكون ينكمش أو يتمدد، فيما يتمدد؟ ما الذي يحتوي الكون ليتمدد بداخله؟
لا يمكن أن نجيب بـ "لا نعرف" فقط عن هذا السؤال، متجاهلين حقيقة أننا نتحدث بلغة محلّية Local، وأقصد أن الكون هو كل شيء نعرفه ضمن الأبعاد الثلاثة (للأعلى، للأمام، على الجانب)، أو الزمن (قبل وبعد)، أما دون ذلك فهو شيء لا يمكن لنا إدراكه أو استخدام لغة لوصفه، لأن هذا يعني أن نتجاوز وجودنا لنصبح كائنات متخطية للأبعاد (Bulk Beings)، وهذا غير ممكن، الإنفجار العظيم هو ظهور للكون الذي نعرفه بزمانه ومكانه، أما أن نسأل عن "قبل الكون" أو "خارج الكون" فهو استخدام للغة تقع ضمن طريقة إدراكنا، لأنه لا يوجد زمان ولا مكان "هناك في الخارج"، حتى أن "هناك" و"في الخارج" تلك هي تعبير مكاني بالأساس، لذلك تلعب الرياضيات دورا تجريديا(3) في هذا المضمار، دورا تتنبأ خلاله بوجود أبعاد أعلى لا يمكن لنا إدراكها.
جميل جدا، الآن نصل إلى المرحلة التي يظهر فيها إدوين هابل (4) عشرينيات القرن الفائت ليكتشف، أولا، أن الكون ليس مجرة درب التبانة التي نعيش فيها، ولكن هناك مجرّات أخرى، جزر كونية أخرى، تسكن معنا في نفس الكون، ثم يضيف هابل، بذكاء شديد، أنه حينما نرصد تلك المجرات البعيدة عنّا نجد أن الكون يتمدد، هنا يعلن أينشتين أنه أخطأ، ويظهر تساؤل جديد ليطرح نفسه أمام فيزيائيي الكونيات، حيث إذا كان الكون يتمدد، فما مصيره؟ بمعنى أننا الآن مقتنعون أنه قبل 13.8 مليار سنة قد حدث انفجار عظيم قد تسبب في خروج الكون وما فيه للوجود، نحن لا نعرف السبب العلمي لحدوث ذلك بعد، لكن لدينا دلائل كبيرة تشير إلى أنه قد حدث، يشبه الأمر مثلا، ليس بالضبط ولكن للتقريب، أن ينفجر بالون به كم كبير من الماء، في البداية ينطلق الماء بسرعة من البالون لكن سرعته سوف تتناقص تدريجيا حتى يقف تماما.
بالنسبة للكون فإن الأمر يختلف قليلا، لأن ما يبطئ حركة تمدده هو جاذبية مكوناته من المجرات، في تلك النقطة دعنا نتأمل مثال شهير، الآن أنت تقف على الأرض وفي يدك ثمرة برتقال، حينما تلقي بها للأعلى سترتفع بسرعة لكنها سوف تتباطأ شيئا فشيئا حتّى تقف، ثم تعود لك مرة أخرى، كلما قذفت البرتقاله بسرعة أكبر ارتفعت أكثر، ألقها بسرعة متر في الثانية مثلًا، متران، كيلومتر كامل في الثانية، استخدم مدفع وألقها بسرعة كيلومترين في الثانية، في كل مرة سوف يحدث فقط أن ترتفع البرتقالة إلى مسافة أكبر لكن لا تلبث أن تعود، هنا نقول أن طاقة وضع البرتقالة (قوة جذب الأرض لها) أكبر من طاقة حركتها (قوة اندفاعها)، إلا في حالة واحدة، حينما تدفعها بسرعة 11 كيلومترا في الثانية تقريبا.
نسميها "سرعة الإفلات (5) Escape velocity "، السرعة التي يجب أن يجري بها جسم ما لكي يفلت من قوة الجاذبية الأرضية، فلا يعود للأرض مرة أخرى وإنما يستقر بالأعلى أو يستمر في الاندفاع في الفضاء لأنه لا جاذبية لتؤثر عليه، يمكن تطبيق نفس الفكرة على الكون ككل، فالكون به مادة تتواجد في الكواكب، النجوم، والمجرات التي تحتويها، تلك المجرات تجري مبتعده عن بعضها البعض، لكن هناك قوّتان تتحكمان في هذا التمدد، طاقة حركتها التي اكتسبتها من الإندفاع بفعل الانفجار العظيم، وطاقة وضعها بسبب جاذبية محيطها من المجرات لها، الآن يمكن تطبيق ذلك على الكون كله، إلقاء الكرة هو الإنفجار العظيم، أما سرعة الإفلات هنا فهي قدرة قوة اندفاع الكون للتمدد على تجاوز جذب مكوناته لذاتها، هناك إذن ثلاثة احتمالات (6):
- الأول: أن تكون طاقة الحركة أكبر من طاقة الوضع، الكون (كالبرتقالة) سوف يفلت من قوة جذب مجراته، يعني ذلك أن الكون سوف يستمر في الاندفاع للأبد، سوف يستمر في التمدد.
- الثاني: أن تكون طاقة الحركة مساوية لطاقة الوضع، أن تتساوى قوة الاندفاع مع قوة الجذب، يعني ذلك أن الكون سوف يتوقف عن التمدد.
- الثالث: أن تكون طاقة الحركة أقل من طاقة الوضع، هنا تكسب الجاذبية المعركة، فيرتد الكون على نفسه لينكمش فيما نسميه "الإنكماش العظيم Big Crunch".
جميل جدا، الآن لنحاول تعقيد الأمر قليلا، سوف نتصور أننا فيزيائيو كونيات ونتأمل بعض المعادلات، قد يفيد ذلك كثيرًا في عدة أمور ليس أهمها هو فهم العلاقة بين شكل هندسة الكون ومصيره مع الزمن، لكن ربما كذلك لتحسين إدراكنا عن المكانة المركزية التي تتخذها المعادلات الرياضياتية(7) في علم كالفيزياء، في كل الأحوال لا يتطلب الأمر أكثر من عمليتي طرح وضرب مع إشارات سالبة وموجبة كتلك التي تعلّمناها في المرحلة الإبتدائية والإعدادية.
استطاع ألكسندر فريدمان(8) Alexander friedman بالفعل، في العشرينيات من القرن الفائت، عبر حل معادلات النسبية العامة لأينشتين، أن يضع نموذجا يمكن من خلاله وصف تلك الفكرة البسيطة التي عرضناها قبل قليل عن تطور الكون نحو مصير محدد من ثلاثة، لكن طبعا مع تعقيدات رياضياتية كثيرة ومملة تملأ عشرات الصفحات، على الرغم من ذلك يمكن لنا فهم الفكرة العامة لتلك المعادلات بصورة أبسط مما يمكن أن تتصور، لا تهتم كثيرا بالرموز وما تعنيه، لكن فقط الفكرة العامة، هل ترى إشارة "الطرح" بالجانب الأيسر للمعادلة؟
تعني الفارق بين الجزء من المعادلة الممثل لطاقة الوضع (جذب الكون لذاته) وطاقة الحركة (اندفاع الكون للتمدد)، فإذا غلبت كفة طاقة الحركة استمر الكون في التمدد، وكانت نتيجة المعادلة قيمة موجبة بالطبع، أما إذا غلبت كفّة طاقة الوضع فسوف ينكمش الكون على ذاته في النهاية، وتكون نتيجة المعادلة سالبة القيمة، وإذا تساوت كل منهما كان الكون ثابتًا (بدرجة ما وبتعبير مبسّط)، وكان الناتج هو صفر، الآن يمكن لنا أن نبدأ في التجريب، لنقيس معًا سرعة تمدد الكون وكثافة مجراته، ماذا تقول؟!
نعم، للوهلة الأولى تظن أنه ليس بإمكاننا أبدا أن نقيس أشياء ككثافة المجرات (9) في الكون ككل وسرعة تمدده، لكن لحسن الحظ نحن نعيش في كون متجانس، ما يعني أن مجراته موزعه فيه بشكل متساوي، عدا طبعًا بعض الحالات الشاذة. الأمر إذن بسيط، يمكن فقط أن نأخذ – بتبسيط شديد للمعنى هنا – قطعة من الكون، أية قطعة كبيرة كفاية لتصبح تلك الحالات الشاذة مهملة، ليكُن مكعبا بطول ضلع محدد، ثم نقيس كتلة المجرات فيه مقارنة بحجمه، هنا نحصل على الكثافة، بعد ذلك يمكن لنا أن نقيس سرعة تمدد الكون عبر قياس سرعة ابتعاد المجرات عنّا، وهذا هو ما فعله هابل من قبل حينما استطاع قياس سرعة ابتعاد المجرات عنّا عبر الانزياح الأحمر المجري (Cosmological Redshift)، من أجل فهم أفضل لتلك الفكرة يمكن مراجعة تقرير سابق للكاتب بعنوان "فجر الكون: كيف تكوّنت المجرات الأولى.