من جديد نعود لعصر السجون السياسية، وزُوار الليل، والمعتقلات السرية وربما أقبية التعذيب التي من غير المستبعد أن تكون آخر مبتكراته التقنية قد استأنف الجلادون تأهيل بعضها في أغوار هذه الأقبية المعتمة. فالتوقيف والاعتقال المتكرر للسيناتور محمد ولد غدة والرواية الصادرة من ذويه عن الطريقة الأخيرة التي تم بها سحبه ليلا من بيته تعيدنا بحزن إلى اجواء الثمانينيات وسنوات الرصاص، وما اتسمت به من مطاردات واعتقال قسري دون محاكمة، والتوقيف دون إصدار لائحة اتهام، و سرية أماكن الاعتقال، و حتى الموت والاختفاء تحت سياط التعذيب وبين قبضات الجلادين، دون أن يتمكن الأهل من معرفة شيئ عن الحقيقة ولا عن الكيفية التي فاضت بها أرواح ذويهم وذوت صرخاتها وأنات ألمها دون أن تستطيع اختراق جدران الزنزانة السميكة...
فالسناتور محمد ولد غدة ما زال حتى هذه اللحظة يتمتع بحصانته البرلمانية التي توفر الحماية القانونية والسياسية لكل برلماني حتى يستطيع تأدية وظيفته الدستورية ضمن واحدة من أهم السلط في النظم الديمقراطية وهي السلطة التشريعية، يؤديها بعيدا عن تأثير السلطة التنفيذية وأدوات ترغيبها وترهيبها المتنوعة. ولم يختلف اثنان من اصحاب الاختصاص القانوني أن ما تعرض له السيناتور في مدينة لكوارب قبل مدة يشكل شططا في استخدام السلطة واستخداما غير قواني للقوة العامة والحرص على تدخلها لمنع تنفيذ القانون واحترام بنوده، والأخطر من ذلك أدت تداعيات ما تعرض له إلى دفع قطاع من أهم أجهزة الأمن الوطني ليكون في أعين الرأي العام ضمن دائرة الاتهام في الاعتداء على الحياة الخاصة للمواطنين ونقل كلام النّاس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد وكشف السر وهتك الستر وما تلفظوا به أو صدر منهم وتؤكد قرائن الحال أنهم يكرهون بشدة أن يطلع عليه حتى آحاد الناس، فكيف إذا وُضِعَ بيسر وسهولة في متناول من لديه ابسط قدرة للوصول إلى خدمة ( الفوكال)، وتم تشويقه وزيادة نهمه إعلاميا للاستماع إلى حلقات لم تنته بعد من النميمة المحرمة بإجماع المسلمين، النميمة التي تظاهرت على تحريمها الأدلة الصريحة من الكتاب والسنة.
إن من ينشد دولة الحق والقانون لابد أن يكون حريصا على الحرية الفردية للأشخاص: حريتهم في اتخاذ المواقف السياسية، حريتهم في التعبير عن رأيهم، والتظاهر من أجله.. وألا تقيد هذه الحرية إلا بقانون وتحت إشراف سلطة تمتلك الأهلية الأخلاقية والقانونية لتطبيق القانون، ولا ينبغي أن نتوقف هنا بل نعمل من الآن على تطوير الوضع السياسي والاجتماعي والأمني في بلادنا بما يبعد شبح العودة إلى ممارسات العهود الاستثنائية مع الأشخاص ومجرمي الحق العام العاديين ، فكيف إذا تعلق الأمر باعتقال عضو في البرلمان والذهاب به ليلا من بين عائلته إلى مكان مجهول، لا يعرف عنه إلا التخمينات وتسريبات المواقع.
لا يمكن أن نهدم السجون إلا إذا ألغينا حالة الخوف الداخلي وعَقْلَ الخوف الذي استوطن اغلبنا بالتحدي ونشر ثقافة الحرية وحقوق الإنسان وقول الحقيقة والخطوة الأولى أن نؤمن بالحرية لأنفسنا وللآخرين وان نكون مستعدين للتضحية بكل ما لدينا من أجلها.
افتتاحية الصواب