في وداع العلامة المتحضر:
إني نسيت حقيقة عنواني
وبدأتُ أسأل كل من يلقاني
إن قلتُ إني مؤمن برسالة
أزلية من مصدر قرآني
أو قلت إني مؤمن بوقوعها
حكموا علي بأنني إخواني
وإذا ذكرتُ حضارتي وعروبتي
قالوا بأني عنصريّ ثان
هذي جيوبي فابحثوا في قعرها
ولتبحثوا من بعدها إيماني!
في آخر لقاء لي بالشيخ "حمدا" رحمه الله، ذكّرته بهذه الأبيات التي ألقاها علينا سنة 1988، في دار الشباب الجديدة فقال: (هذه تعبّر عني بالضبط، وهي ضائعة لا يحفظها غيرك!)
ولقد كانت حياة الشيخ رحمه الله تجسيدا لتلك الأبيات وتحقيقا لمعانيها؛ فكان بصيرا بدقائق هذا الدين، عليما بسرائر هذا المجتمع، يعالج ما بينهما من علاقة مختلة، على سعة صدر وحلاوة شمائل ورباطة جأش!
فهو يعالج همّ الدين ذاته، ينفيَ عنه تحريف الغالين، وانتحال أدعياء المعرفة، الحاملين أسفارا، والجاهلين أخبارا، من تولّجوا في أمية حضارية بنصوص جامدة، وهربوا من ميدان الحياة،.. فكان رحمه الله نموذجا فريدا في الفقه المتحضر والوعي المتبصر، والذوق الأدبي والوجداني الرفيع؛ يؤصل للمباح ويبشر بما في الإسلام من فسحة ويسر، فيوسع دائرة التدين ويرفع الحرج، ويفرق بين المحرم شرعا والممنوع اجتماعيا، وبين تعاليم الإسلام وتقاليد المجتمع، بين الدين الرباني والتدين البشري!
وهو يعالج الفسوق المتزين بلبوس العلم والتحضر؛ فقد قارع رحمه الله موجات الإلحاد أوان نشوئها، وبشّر بالبديل الإسلامي ونظّر له واستنطق النصوص واستخرج الأحكام لمعالجة الواقع المعاصر.
ولقد كانت له اليد الطولى في كل ذلك، مؤهلا بمواهبه اللدنية ومكاسبه المعرفية ومواريثه الاجتماعية؛ فقد كانت (خيمة أهل العاقل) المجيدة فضاء حضاريا تصطحب فيه طيبات الحياة، من ثمار العلم والصلاح، ومكارم العقل والروح، ومتع الذوق والأدب.
وقد تعززت تجربة الشيخ بتمرّسه بالحياة الحديثة، رحيلا في طلب العلم، وضربا في حواضر العالم، وبحثا في عويصات الفقه ونوازل الفتوى!
ولك أن تختلف مع مدرسة الشيخ في بعض (أبواب فقه السلطان)، لكن الشيخ يظل رمزا من رموز الصحوة الإسلامية، المعاصرة نموذجا للموسوعية المعرفية بكل ألوانها، مفكرا بصيرا ومنظّرا قديرا، وخطيبا مفوّها، وفقيها متحضرا .
وبعد؛ فقد كتبتُ هذه الأسطر فجر رحيل العلامة حمدا، عليه من الله الرحمة والرضوان، لكنني تهيبت نشرها، لعلوّ مقام الشيخ في نفسه، وعلو منزلته المعرفية والأدبية، ثم لهيبة أخرى كادت تصرفني وتصدني:
فأما بيتكم إن عُدّ بيت
فطال السَّمك واتسع الفِناء!
وكما قال امحمد رحمه الله في رثاء الشيخ سعد بوه:
ألا فاعذروا اللسن الحِداد فصمتها
لفقد الكريم بن الكريم حِدادُها
فما عسى أن يقال في جبل مثل الشيخ حمدا، له فئام من المريدين والطلاب، هم شيوخ وعلماء أجلاء وأرباب أدب وقادة رأي.. قد اعتمروا تيجان الهيبة، وتطامت أمامهم شماريخ رضوى عزة وتكرما.. لم يغادروا في مدحه ورثائه من متردم، وقد تقاصرت عنهم في ذلك القصائد العصماء والمعاني البكر..
وكما الشيخ عدود ذات سمر رمضاني مع صديقه الوفي، وتربه في البهي..
بالشيخ حمدا صِليني
وعنه لا تفصليني
وعما تبقى من جميل خصاله
أرى الصمت أولى بي منَ ان أتكلما!
رحم الله الشيخ حمدا ولقّاه نضرة وسرورا.
محمد غلام الحاج الشيخ