بغية ضمان الرخاء والمساواة، هناك مطلب ثابت لدى الموريتانيين يتمثل في القيام بأعمال من شأنها إصلاح وإضفاء الطابع الأخلاقي على الحياة العامة في هذه البلاد التي يقل عدد سكانها عن 4 ملايين نسمة والتي يفيض باطن أرضها بالثروات.
والحقيقة أن الرشوة واللامساواة يتغذى كل منهما من الآخر لتنشأ حلقة مفرغة بين الرشوة والتوزيع غير العادل للسلطة والتوزيع غير العادل للثروة، حسب منظمة الشفافية الدولية.
“في العديد من البلدان، لا تتم تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين الذين يبيتون كل مساء ببطون خاوية بسبب الرشوة، بينما الأقوياء والمرتشون يتمتعون بنمط حياة باذخ مع الانفلات من أية عقوبة”، حسب تصريح لرئيس منظمة الشفافية الدولية جوزي إغاز.
إنه لمن دواعي غبطة الموريتانيين أن يعلموا أن سلطاتنا صممت أخيرا على مواجهة هذه الآفة بتكليفها لمفوضية الجرائم الاقتصادية وقضاة التحقيق بالقيام بالمتابعات والتحريات اللازمة.
إلا أنه علينا أن ننتبه إلى أن سلطاتنا أخطأت الهدف بقيامها بإجراءات ضد بعض الصحفيين والنقابيين والشيوخ الذين لا يسيّرون أي مال عام. لقد سعت السلطات إلى جعل ما تعتبره رشوة مقتصرا على هذه الدائرة مع صمتها المطبق حيال الاختلاسات الكبيرة للمال العام، وتبديد الثروات الوطنية، والتحويلات عبر الحدود للأموال المتدفقة المحتال عليها.
من نحن بالنسبة لهؤلاء؟. لقد انحرفت السلطات باعتمادها وضع المهاجم في أعمالها. فتحليل الوقائع سيؤكد أن الأمر يتعلق بوضع ظرفي يخفي تصفية حسابات حقيقية سافلة.
هل يحاول النظام إضفاء مصداقية على فكرة مفادها أن أعماله تدخل في إطار الإصلاح وأخلقة الحياة العامة. لا شيء أقل صدقية من هذا. إن علينا من الآن أن نعيد العمل المقام به هذه الأيام من قبل الشرطة الاقتصادية إلى سياقه الحقيقي المتمثل في تصفية حسابات حقيرة لا تخفى على أحد، من أجل معاقبة شيوخ تجرأوا على قول لا لتعديلات دستورية غير واردة. نعم، إنه تصفية حسابات حقيرة، وإلا كيف لنا أن نفسر أن نفس الشيوخ استقبلهم، يوم 16 مارس، رئيس الجمهورية في القصر الرئاسي، مع كل ما يستحق منتخبو الشعب من تقدير، من أجل أن يطلعهم على فوائد التصويت بنعم، وليتعهد لهم بالعجب العجاب، ويمنحهم بسخاء قطعا أرضية (أية مفارقة!) قبل أن يصبحوا، منذ 17 مارس 2017، مرتشين بين عشية وضحاها!. الحيلة لا تنطوي على أي أحد.
إنها تصفية حسابات حقيرة تسعى لمعاقبة شيوخ لم يزيدوا على أنهم، من خلال تصويتهم بكل حرية، شرّفوا ديمقراطيتنا، وأعطوا مثالا حسنا لديمقراطيتنا مثلما وقع مع المرحلة الانتقالية، بمقدم سيدي ولد الشيخ عبد الله: تلك المرحلة التي وضعت حدا، بصفة سلمية، للنظام العسكري والتي جابت العالم كمثال أوحد في العالم العربي. إن من أفسد تلك المرحلة سيفسد، بنفس الطرق الانقلابية، هذه المرحلة.
هل أخطأ قضاة التحقيق والشرطة الاقتصادية هدفهم؟. فالهدف الحقيقي ينتظره الموريتانيون في مجال المال العام الذي يُختلس بصفة اعتيادية: الهبة السعودية بـ 50 مليون دولار، “بيع” المدير السابق للمخابرات الليبية للسلطات الجديدة في بلاده مقابل 250 مليون دولار، مطار نواكشوط الجديد، توسعة ميناء نواكشوط المستقل، بناء ميناء تانيت، الطرق الحضرية، المحطة الكهربائية الجديدة بانواكشوط، المواد الغذائية الموجهة لحوانيت أمل، المعدات الصحية، الإستصلاحات الزراعية، والمشتريات المتكررة للأسمدة لصالح الحملات الزراعية، طائرات خطوط موريتانيا أيرلاين.
لجنة تصفية الثروات المعدنية، تصفية الأملاك العقارية للدولة (قطع ابلوكات، ثكنة الجوق الوطني، جزء من الملعب الأولمبي، جزء من مدرسة الشرطة، المدارس العمومية بالعاصمة…) سوق سندات الخزينة، صفقات الأعمال والتموين والخدمات، وغيرهما من سوء التسيير والاختلاسات التي يسويها، في كل نهاية سنة، قانون مالي معدل. تصفية اسنيم ومداخيلها على مدى سنوات كان فيها سعر الطن 150 دولار، و13 مليار المقروضة لشركة النجاح، والمصادر المائية لموريتانيا المهداة على طبق لشركة بولهوندونغ لمدة 25 سنة مقابل عمولات: تلك هي الأهداف التي تهم الموريتانيين لأنها تتعلق بأموالهم المشتركة التي بإمكانها أن تحد من الفقر والبطالة والتفاوتات، وتساعد في بناء المدارس وتشييد الطرق والمستوصفات، عكسا لأموال ولد بوعماتو أو أي رجل أعمال آخر لأنها ليست معدة لهذا الدور.
إنها الأهداف التي تهم الموريتانيين لأنه بسبب هذا صنفت موريتانيا في المرتبة 124 ضمن 175 بلدا في تقرير مؤشر تلقي الرشوة في العالم المنشور من قبل منظمة الشفافية الدولية بالنسبة للسنة المنصرمة. ولهذا السبب تأخرت موريتانيا هذه السنة فصنفت 142 من أصل 176 بلدا.
أن يحاولوا جعلنا نعتقد أن تصفية الحسابات التي تقوم بها السلطات حاليا تأتي في إطار مكافحة الرشوة أمر مُهين.
يقول روجي غارودي في كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” بأن الإسرائيليين أثروا إلى درجة كبيرة في الوعي الجماعي العالمي لدرجة أنهم حولوا الشر الذي يفعلون إلى خير، وأن الأمر يمر دون أن ينتبه له أحد. ويعطي غارودي مثالا على ذلك بأن العمليات المميتة ضد الفلسطينيين في جنوب لبنان سنة 1982، والتي أسفرت عن 18 ألف قتيل أطلقوا عليها الإسرائيليون “السلام في جبل الجليل”. ومع أن التدخل العسكري الإسرائيلي خلف 18 ألف قتيل فهم يدعونه “السلام“!.
وفي موريتانيا يتم “تفكيك شبكة واسعة لتعاطي الرشوة العابرة للحدود”: أعطى ولد بوعماتو تذكرة للمعلومه ومليون أوقية لصديقه موسى صمبه سي… لهذا السبب صنفت موريتانيا 142 من أصل 176 بلدا في تقرير مؤشر تلقي الرشوة الذي لا يأخذ في الحسبان إلا الأعمال التي تمس القطاع العام، معتمدا على معطيات تجمعها 12 هيئة دولية من بينها البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية والمنتدى الاقتصادي العالمي! من يحسبنا هؤلاء!؟. وأي شبَه مع “سلام الجليل” المتمخض عن 18 ألف قتيل!!!. مكافحة الرشوة التي تنخر جسم الاقتصاد الموريتاني وتنهب ثرواته تتمثل في ولد غده، الساموري، النهاه، أحمد ولد الشيخ…!.
انواكشوط 18/09/2017
الأستاذ أحمد سالم ولد بوحبيني