رغم رحيله المفاجئ زوال الرابع من يوليو 2024 لم يكن الموت شيئا مفاجئا للمرحوم، فقد كان ينتظره ويعتبره واقعا لامحالة، بل يعتبره مجرد استمرار للحياة بشكل آخر في كنف رب رحيم عفو قدير، رب أخبرني الفقيد في أيامه الأخيرة أنه يقترب منه قربه من ذاته العميقة، وأنه يلتمس مغفرته كل حين ويعول على لطفه وعفوه ورحمته .. كان ولد عمير مسلما مؤمنا محسنا لحد التصوف فكل صمته تأمل ،وكل نظراته تبتل وعبادة وانبهار بخلق الله وتدبر لآياته الساطعة في الآفاق وفي أغوار النفوس المؤمنة المطمئنة الراجعة إلى ربها راضية مرضية.
لم يكن المرحوم شخصا عاديا كان أستاذا مميزا نهلت أجيال من نبع علمه الذي لا ينضب وكان قائد رأي استنارت أجيال برؤاه وآرائه الحصيفة التي يعبر عنها بسميائية البلغاء الذين تنقاد لهم المعاني دونما تكلف .. كان اجتماعيا تواصليا خلوقا صبورا وفيا لقناعته متلمسا أحسن المخارج لمن لا يوافقه الرأي وكان بارعا في إدارة الاختلاف وفي تشذيب وتهذيب المشتركات الجامعة كي يجد كل طرف ذاته في إطار الكل الجامع.
أتذكر أنني قابلته لأول مرة صحبة رفيق دربه المرحوم حبيب ولد محفوظ في شهر مارس 1983 حينها كان أستاذا بثانوية لعيون وكنت في مهمة إنتاجية لجريدة الشعب، وقد أكرما وفادتي وساعداني على إنجاز المهمة وزوداني بمقالات دسمة، جيدة المعني والمبني والمرمي نشرت في الطبعة الفرنسية من جريدة الشعب في أبريل 1983، والطريف في الأمر أنني طلبت منهما تشريفي بالانضمام لقراء عمودي اليومي "همسة" الذي كان يحتل الركن القصي للصفحة الأخيرة من جريدة الشعب ،ورحبا بذلك ولكن العكس هو الذي حصل فقد أصبحت قارئا وفيا لهما لاحقا وأدمنت على قراءة كتابات المرحوم محمد فال في جريدة "موريتانيا دمينه" وقراءة كل كتابات حبيب لاحقا في "البيان" وفي غيرها وواصلت قراءة افتتاحيات ومقالات محمد فال في جريدة "لاتربين" التي كانت من أبرز صحف الرأي في البلاد في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين ،وكان خط تحريرها متسما بالاستقلالية الواعية، فالمرحوم شق طريقا مهنيا وسطيا بين المعارضة والموالاة دون تجاهل الاغلبية الصامتة التي كانت مشتل القراءة ومطبخ صناعة الرأي العام..كانت بوصلته مصلحة الوطن التي كانت بالنسبة له مربط الفرس وبيت القصيد وغاية الغايات ..
المرحوم محمد فال كرس حياته للوطن وخدمه مدرسا مميزا وكاتبا صحفيا مهنيا ومديرا عاما للوكالة الموريتانية للأنباء التي نجح في تطوير بنيتها المؤسسية وفي وضع استراتيجية متكاملة لتمهين وتنويع خدماتها، مكنت تلك الاستراتيجية الوكالة من تحقيق مكاسب ملموسة منها تطوير إنتاج الوسائط المتعددة ورقمنة حفظ الأرشيف الصحفي وتطوير النشر المتخصص واعتماد نظام أساسي للصحفيين المهنيين ولأعوان التحرير مكن من تحقيق زيادات معتبرة في الراواتب ومن تحديد معالم مسارات مهنية وتكوينية للصحفيين الممارسين ، واختتم الراحل مسيرته على رأس الوكالة ببناء وتجهيز قاعة الصحافة التي أصبحت قاعة للمؤتمرات الصحفية الحكومية والتي أقترح ان يطلق عليها "قاعة محمد فال ولد عمير" تخليدا لذكرى زميل خدم المهنة من كل المواقع وترك أثرا خالدا يستحق ان تتشاركه الاجيال الحالية واللاحقة.
لقد رحل ولد عمير وترك بيننا أسرته الخاصة وعائلته الكبيرة التي ربته احسن تربية و قيضت له كل مقومات النجاح والخلود. وقد افني الرجل عمره في خدمة المهنة وخدمة الدولة وخدمة المجتمع وكرد لشيء من جميله يتعين علينا كمهنيين وعلى الدولة كراعية للمبدعين المميزين وعلى كل أصدقاء المرحوم أن نصون ذكراه وان نفي بما ينتظر منا في مثل هذه اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت والخلود.
رحم الله الفقيد محمد فال ولد عمير واسكنه فسيح جناته والهمنا الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أ.مصطفي