عبر القرون ، عاش المجتمع الموريتاني حالة من التوازن والتماسك رغم ظروفه الجغرافية الصعبة ونمط حياته البدوي . تميز بالسكينة والصفاء، وحافظ على قيم أخلاقية ودينية واضحة. رغم قسوة العيش ، برع المجتمع في إنتاج المعرفة، خاصة في العلوم الدينية ، الشعر ، التاريخ واللغة . أضاء العلماء الشناقطة العالم الإسلامي بنتاجهم الفكري، وصارت لهم شهرة تجاوزت حدودهم الجغرافية، ووصلت إلى المشرق .
لكن مع مجيء المستعمر الفرنسي، شهد المجتمع هزة عميقة ، حيث تعرضت بنيته وعلائقه التقليدية لتغيرات جوهرية . أصبحت القيادة القبلية تخدم مصالح المستعمر ، بعد أن كانت تدير شؤون المجتمع بتقاليدها العريقة . بدلاً من الشورى وخدمة القبيلة ، تحول الزعماء القبليون إلى وسطاء بين الإدارة الاستعمارية والسكان ، وأصبحوا مجرد أدوات لجمع الضرائب وتثبيت نفوذ فرنسا .
أثر الاستعمار الفرنسي : فقدان العزة والكرامة
فقد المجتمع روح العزة والنخوة التي كانت تميزه ، وسيطرت ثقافة الخضوع على النفوس . وفي حين تم تدجين الساكنة في معظم مناطق البلاد ، كان الاستثناء هو الصحراء الغربية وإقليم أزواد ، حيث احتفظوا بشيء من الاعتزاز بالنفس والاباء ، رافضين الخضوع والصغار .
انقسام النخب وبناء الدولة
مع اقتراب الاستقلال ، انقسمت النخب الموريتانية إلى تيارات متباينة حول مستقبل البلاد . بعضهم رأى في الاستقلال ضرورة، بينما اعتقد آخرون أن البلاد ليست جاهزة لبناء دولة مستقلة ، حيث اقترحوا أن تكون البلاد جزءًا من السنغال، أو في اتحاد مع السودان الغربي (جمهورية مالي). فيما ذهب آخرون إلى أن موريتانيا جزء لا يتجزأ من المملكة المغربية .
عندما تقرر بناء الجمهورية الإسلامية الموريتانية، كان البناء منذ البداية معوجًا وقابلًا للانهيار. ضاعت فرص ذهبية لبناء دولة قوية ومستقلة منذ اللحظة الأولى.
من أبرز الأخطاء :
1. التصويت في استفتاء المستعمر : كان بالإمكان قطع العلاقة مع فرنسا كما فعلت بعض الدول الأفريقية ، لكن موريتانيا اختارت البقاء في فلكها .
2. المعاهدات المجحفة : تم توقيع معاهدات مع فرنسا مكبلة للسيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي .
3. التفريط في الهوية الوطنية : تم تكريس اللغة الفرنسية كلغة رسمية ، بدلًا من اللغة العربية ، لغة غالبية السكان مما أحدث انقسامًا داخليًا ما زال يؤثر على البلاد حتى اليوم .
4. السيطرة الاقتصادية الفرنسية : سيطرت شركة "ميفرما" الفرنسية على قطاع المناجم واستنزفته لصالحها ، ولم يتم تأميمها إلا بعد أن نضبت الموارد .
5. القضاء على التعددية السياسية: تم إلغاء الأحزاب السياسية، وتكريس الحزب الواحد ، مما أجهض أي أمل في الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة .
الانزلاق إلى الفوضى: حرب الصحراء
دخلت موريتانيا في مستنقع حرب الصحراء الغربية ، مما أثقل كاهلها وفتح الباب أمام سلسلة من الانقلابات العسكرية . هذه الانقلابات أنهكت الدولة وأدخلتها في دوامة من الحكم العسكري المتواصل . ورغم بدء المسلسل "الديمقراطيي" في التسعينيات ، كانت هذه الديمقراطية شكلية ، حيث ظلت السلطة بيد العسكريين ، وغالبًا ما كانت الانتخابات مجرد تمثيلية تُعرف نتائجها مسبقًا.
الأحداث الأخيرة: تسارع غير مفهوم
في العقدين الأخيرين، شهدت موريتانيا أحداثًا غامضة وسريعة الإيقاع، من الصعب فهمها أو تحليلها بدقة . كأن البلاد دخلت في حالة من الاضطراب المستمر ، حيث تتوالى الأزمات دون حلول حقيقية . يسود شعور عام بأن شيئًا خاطئًا يحدث، وأن الرداءة قد طالت كل شيء، من التعليم إلى الصحة إلى الاقتصاد.
المجتمع في حالة من اليأس والضياع
انعكس هذا الوضع المتدهور على الحياة اليومية للموريتانيين . تعيش الأسر في حالة من الحيرة والضيق، محاصرين بغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار. يعاني الشباب من اليأس وانعدام الفرص ، فيما تبدو الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة في حالة من الانهيار . المستشفيات تشبه حظائر للحيوانات، بلا رعاية أو أمل . الكهرباء والماء والإنترنت تشهد انقطاعات متكررة دون حلول جذرية .
انعكس ذلك كله وبات جليا في حيرة وذهول سكان البلاد الاصليين حيث اضحوا فجأة غرباء في وطنهم وباتوا محاصرين باعداد لا تحصي من الغرباء والمهاجرين من افريقيا ومن آسيا ومن كل فج عميق فانتشرت الجريمة بكل اشكالها وصار القتل على الهوية ناهيك عن السرقة والسلب والاغتصاب.....
التمييز الاجتماعي: نخبة مرفهة وأغلبية مسحوقة
زاد الفقر والتهميش من حدة الفوارق الاجتماعية ، حيث باتت النخبة العسكرية والإدارية والمالية تستأثر بكل مقدرات البلاد ، في حين يعيش غالبية السكان في فقر مدقع . هذه النخبة تمارس البذخ والاستفزاز ، في حين تم تسمية الطبقات المسحوقة بـ"المواطنين البسطاء"، وهو تعبير ينطوي على الاحتقار والإذلال .
الخوف من المستقبل: هل حان وقت الرحيل؟
أمام هذا الوضع الكارثي، بدأت تبرز فكرة الرحيل كخيار وحيد أمام العديد من المواطنين. رغم أن الهجرة تبدو محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة النتائج ، إلا أن اليأس دفع الكثيرين للتفكير في مغادرة البلاد بأي وسيلة ممكنة . الهجرة أصبحت الهاجس الرئيسي للمواطنين ، حيث لم تعد هناك ثقة في إمكانية إصلاح الأوضاع داخليًا .
تطلع المواطن وسط هذه الفوضى العارمة الى منقذ او مخلص ينتشله من الضياع والتيه الا ان خيبات الامل كانت له بالمرصاد . فالانظمة المتتالية تشابهت عليها السبل والحكومات المتعاقبة ( حكومات ول اعمر غرظو) غارقة في الفساد حتى الودجين . فلا اصلاح ولا برامج تنموية جادة ولا حتى محاولة للتخفيف من معاناة الناس ناهيك عن الاقلاع الاقتصادي المزعوم فذلك امر من دونه خرط القتاد رغم اقلاع الجميع من حولنا .
هل من مخرج؟
في ظل هذا التيه ، من الضروري أن تبرز النخب الفكرية والحكماء ليقودوا المجتمع نحو الخلاص . على المثقفين وأصحاب العقول النيرة أن يتنادوا لبحث حلول جذرية تنقذ البلاد من هذا التدهور المستمر .
إن حالة الانهيار التي تعيشها موريتانيا تحتاج إلى مراجعة شاملة ، ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي، ولكن أيضًا على المستوى الاجتماعي والثقافي . إنقاذ البلاد يتطلب توجيهًا حقيقيًا ، وتضافر جهود كل فئات المجتمع ، للخروج من هذا المأزق الذي يبدو أنه يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم .
ويبقى السؤال معلقا : هل ضرب علينا التيه ؟ هل ازفت ساعة الرحيل ؟ ام ان ثمة مخرج ؟
محمد يحيى ول اجيد ول الشيخ ول احمد ول سيد احمد البكاي ول عبدي ول سيد احمد