يرى البعض بأن حل المشاكل التي تعاني منها بعض الشرائح والمكونات يكمن في الأخذ بمبدأ المحاصصة في تعيينات مجالس الوزراء، وكذلك في المسابقات وفي كل عمليات الاكتتاب، ويرى هؤلاء بأنه يجب الأخذ بالمحاصصة واعتمادها في كل الإدارات، وفي البرلمان، بل وحتى في الهيئات القيادية للأحزاب السياسية وللمنظمات الأهلية وفي أي تجمع آخر مهما كانت طبيعته.
بدءا لابد من القول بأنه من دواعي الاطمئنان على وحدة هذه البلاد وعلى تلاحم شعبها وتماسكه أن يرى الواحد منا كل مكونات موريتانيا في التعيينات التي تأتي مع بيانات مجالس الوزراء، وكذلك في نتائج أي مسابقة يتم تنظيمها، وفي واجهة كل إدارة وكل تجمع سياسي أو أهلي ..بل أكثر من ذلك، فقد يكون من دواعي الاطمئنان على وحدة هذه البلاد وعلى تلاحم شعبها أن نرى كل هذه المكونات فيما يُفرح وفيما يُحزن أبعدنا الله جميعا عن الأحزان، أن نراها في أي سجن نزوره، وفي أي حادث سير نعلم بوقوعه.
لا خلاف على أن من دواعي الاطمئنان على وحدة البلاد وعلى تلاحم شعبها وتماسكه، أن ترى موريتانيا مصغرة أينما وليت وجهك : أن تراها في قصور الأغنياء وفي أكواخ الفقراء، في هرم الوظائف وفي أدناها، في صفوف القادة وفي جماهير المناضلين، في علية المجتمع وفي عامته، في فرق الرماية وفي فرق كرة القدم.
من المهم جدا أن يرى الواحد منا موريتانيا مصغرة أينما ولى وجهه، ولكن هل سيتحقق ذلك من خلال اعتماد مبدأ المحاصصة في التوظيف؟ وهل اعتماد مبدأ المحاصصة في التوظيف سيحسن من حال هذه الشريحة أو تلك؟
إن اعتماد المحاصصة كأسلوب في التعيين والتوظيف لن يحسن من حال هذه الشريحة أو تلك، تلك حقيقة يجب أن تقال بلغة فصيحة وصريحة، ولتأكيد وجاهة هذا القول فدعونا نتوقف مع جملة من الملاحظات التي قد لا تجد من يتحدث عنها.
(1)
احتكرت ولاية الحوض الشرقي ولما يزيد على ربع قرن منصب الوزير الأول، مع وجود حالة استثناء وحيدة كان فيها نصيب الوزارة الأولى من حظ ولاية لبراكنة.
ربع قرن وولاية الحوض الشرقي تحتكر منصب الوزير الأول، ومع ذلك فما تزال هذه الولاية تعاني من بؤس شديد، وربما تكون من أكثر ولايات الوطن بؤسا وكل ولايات الوطن تعاني من بؤس شديد، وما تزال مدينة النعمة ـ عاصمة هذه الولاية ـ من أكثر عواصم الولايات بؤسا، وكل عواصم ولايات الوطن هي مدن بائسة.
لم يستفد المواطن العادي في هذه الولاية من احتكار ولايته للوزارة الأولى لربع قرن، لم يستفد في سكنه، ولا في صحته، ولا في تعليمه، ولا في تشغيل أبنائه، ولا في التحسين من ثروته الحيوانية. لم يستفد من احتكار ولايته للوزارة الأولى، وإنما انحصرت الاستفادة في الوسط الضيق جدا لمن تولى الوزارة الأولى من أبناء هذه الولاية، فاستفادت أسرة أهل محمد خونا، وأسرة أهل أمبارك، وأسرة أهل الكيك، وأسرة أهل زيدان، وأسرة أهل محمد لغظف، وأسرة أهل حدمين. أما الأربعمائة ألف وزيادة من سكان هذه الولاية فإن حالهم لم يتحسن ولو قليلا. يمكن أن نقول شيئا مماثلا عن ولاية انشيري التي حظيت برئيسين للدولة ينحدران من هذه الولاية أو على الأقل ينتسبان إليها، ومع ذلك فما تزال هذه الولاية تعاني، وما تزال عاصمتها تعاني.
دعونا نسأل هنا هل كان حال ولاية الحوض الشرقي سيكون أفضل لو تم اختيار أشخاص للوزارة الأولى من خارج الولاية، ولكن بشرط أن يكون معيار الاختيار كان قائما على الكفاءة والاستقامة وحسن الأداء؟
من المؤكد بأن حالها كان سيكون أفضل لو كانت المعايير التي يتم على أساسها اختيار الوزير الأول هي معايير تتعلق بالكفاءة والنزاهة والاستقامة الوظيفية، ولا يهم في هذه الحالة أن يكون الوزير الأول من أقصى نقطة في شرق البلاد أو في غربها، من أقصى نقطة في شمال البلاد أو في جنوبها. بل لا يهم في هذه الحالة أن يكون الوزير الأول من إنس موريتانيا أم من جنها، ففي كل الأحوال فإن وزيرا أول تم اختياره على أساس الكفاءة والاستقامة لابد وأنه سيعمل على إيصال كل ولاية نصيبها من التنمية ومن عائدات الثروة الوطنية.
إن كاتب هذه السطور ليفضل أن يتم تعيين حكومة كاملة ليس من بينها أي وزير ينتمي إلى قبيلته أو إلى جهته أو إلى شريحته، بل إنه يفضل أن يتم تعيين حكومة كاملة من الجن، أو أن يتم استيراد أعضائها من إحدى الدول المجاورة بشرط أن يكونوا أكفاء، إنه ليفضل تلك الحكومة المستوردة من دول مجاورة عن حكومة من المفسدين حتى ولو كان كل وزرائها من أبناء قبيلته.
(2)
في الفقرة السابقة تحدثنا عن أعلى الوظائف في الجهاز التنفيذي، وبينا أنها لم تنعكس إيجابا على الجهة أو المنطقة التي ينحدر منها من تولى تلك الوظائف والمناصب العليا. في هذه الفقرة سنتحدث عن الوظائف ذات الطبيعة السياسية والتشريعية، وسنبين بأن هذه الوظائف لم تنعكس هي أيضا على شريحة من تولى تلك الوظائف والمناصب.
دعونا نطرح أسئلة مباشرة جدا : هل انعكست رئاسة محمد ولد أبيليل للجمعية الوطنية بشكل إيجابي على الشريحة التي ينتمي إليها؟ هل تميز تسييره وإدارته لها عن تسيير غيره من أبناء الشرائح الأخرى وبما انعكس إيجابا لصالح الشريحة أم أنه لا توجد فوارق في هذا المجال تميزه عن غيره؟ وهل لاحظتم أن هناك اهتماما خاصا بسن القوانين التي يمكن أن تفيد الشريحة تميز به محمد ولد أبيليل عن غيره أم أن الذي لاحظتهم هو أن محمد ولد أبيليل ومحيطه الأسري الضيق قد استفادا كثيرا من هذا المنصب، وأن الشريحة في عمومها لم تستفد أي شيء من وجود أحد أبنائها على رأس هذه الغرفة الهامة؟ وهل استفادت شريحة أخرى في عهد رئاسة الشيخ سيد أحمد ولد باب للجمعية الوطنية؟ وهل سمعتم في عهد ذلك الرجل عن تشريع قوانين ذات أهمية لتشجيع الصناعة التقليدية مثلا أم أن الذي حصل هو أن الشيخ سيد أحمد ولد باب جمع أموالا طائلة، وشيد القصور، ثم أغلق من بعد ذلك أبوابها في وجه المستضعفين من شريحته؟
سؤال آخر : هل سمعتم عن مقترح قدمه المجلس الاقتصادي والاجتماعي للحكومة لصالح هذه الشريحة أو تلك في هذا العهد أو ذاك؟ وهل هناك فرق يذكر فيما تحقق لصالح هذه الشريحة أو تلك عند المقارنة بالفترة التي ترأس فيها أحمد سيدي باب المجلس وتلك التي ترأس فيها مسعود ولد بلخير هذا المجلس؟
أخيرا ماذا استفادت مكونة أخرى من مكونات المجتمع احتكرت رئاسة مجلس الشيوخ لما يقترب من ربع قرن، فهل استفادت تلك المكونة من هذا المنصب الرفيع أم أن الذي استفاد في حقيقة الأمر هم الأشخاص الذين تولوا ذلك المنصب الرفيع؟
(3)
في الماضي كانت الحركات والتيارات الأيدلوجية ذات تأثير قوي في تحريك الساحة وفي الضغط على الأنظمة، ولقد استغل الكثير من قادة تلك الحركات والتيارات مواقعهم القيادية لتحقيق مكاسب خاصة على حساب تياراتهم التي ينتمون إليها.
فكم من قيادي تم تعيينه في وظيفة سامية، وكم من قيادي تناسى الأفكار التي كان ينادي بها في تياره، وانشغل من بعد التعيين في تحقيق مصالحه الخاصة؟
كانت التيارات الأيدلوجية مطية للتعيين، ولكن المفارقة أن قادة ومناضلي تلك الحركات والتيارات كانوا يسارعون إلى رمي الأفكار والمبادئ التي يؤمنون بها في سلة المهملات عند أول تعيين ليتفرغوا من بعد ذلك في تحقيق مصالحهم الخاصة.
كثيرٌ من القوميين اختزلوا ـ بعد التعيين ـ الوطن العربي الكبير ليس في القطر الموريتاني، بل وفي أضيق من ذلك، فاختزلوه في القبيلة وفي العائلة، وجعلوا من مصالح أسرهم الضيقة مصالح قومية كبرى !
وكثيرٌ من الكادحين تحولوا ـ بعد التعيين ـ من مدافعين عن حقوق الفقراء والمستضعفين إلى لصوص ومفسدين من الدرجة الأولى.
وكثيرٌ من الإسلاميين طبلوا ـ من بعد التعيين ـ للتطبيع ولتحويل العطلة إلى يوم الأحد، ولم ينسوا هم أيضا نصيبهم المعلوم وغير المعلوم من سرقة المال العام.
اليوم وبعد تراجع التيارات الإيديولوجية بدأ البعض يفكر في طريقة جديدة للتعيين فرفع لواء القبيلة والجهة والشريحة، وأصبح لا شغل له إلا تبيان الحرمان الذي تعاني منه قبيلته أو جهته أو شريحته، وهو لا يقوم بذلك خدمة للجهة أو للشريحة أو للقبيلة، وإنما يبحث عن وظيفة.قد تكون هناك استثناءات قليلة جدا، ولكن في الأغلب فإن أولئك الذين يرفعون لواء القبيلة أو الجهة أو الشريحة لا يبحثون إلا عن مصالح خاصة.
لو كان هؤلاء يبحثون عن حلول لمشاكل الشريحة الأكثر ظلما في البلاد لكانت مطالبهم من نوع آخر، فهل سمعتم يوما أي واحد من هؤلاء يدعو مثلا إلى إعطاء أولوية للزراعة المطرية التي هي مصدر الرزق لآلاف الأسر المنتمية لتلك الشريحة؟ هل سمعتم بالدعوة إلى توفير الدعم للتعاونيات الريفية، وخاصة تلك التي تتبع لنساء؟ هل سمعتم بالدعوة إلى إطلاق برامج لتمويل أصحاب المهن والحرف الصغيرة جدا أو سمعتم بالدعوة لإطلاق برامج أخرى للتثقيف الحرفي؟ وهل سمعتم بالمطالبة بتأسيس صناديق تنموية خاصة بآدوابة؟ وهل سمعتم بالمطالبة بتفعيل دور وكالة التضامن والتي هي بالمناسبة فكرة رائدة، ولكنها كانت فاشلة في وضع التصورات والبرامج، وكذلك في التسيير والإدارة.
ختاما
إن تعيين هذا الشخص أو ذاك، لن يفيد هذه الشريحة أو تلك المنطقة. إن الذي سيفيد حقا هذه الشريحة أو تلك المنطقة هو إعطاء الأولوية لقطاعات معينة، وإطلاق برامج تنموية جادة تعود بالنفع على الآلاف من الأسر مع التركيز على محاربة الفساد والعمل من أجل أن تكون الكفاءة والاستقامة وحسن الأداء هي المعايير المعتمدة في التوظيف والتعيين.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل