فخامة رئيس الجمهورية الموقر،
لقد قررت أخيرا من بعد تردد سببه ما عانيته من صد الأبواب بإحكام أمام لقائكم و منع من التحدث إليكم أثناء عديد المناسبات و مهاتفتكم و مراسلتكم، أن أكتب إليكم، و هذا من حقي عليكم، و أعلم أنكم تعرفون ذلك و تدركون معناه في سياق العلاقة بين الحاكم و الرعية. كما أنني أعلم أنه ربما لا وقت لديكم، من كثرة مشاغلكم الجسيمة، لقراءة ما يكتبه إليكم أحد أفراد العامة المغمورين من غير المسؤولين في أهل الرتب العالية، أو الوجهاء من علية القبائل، أو السياسيين من زعماء و أصحاب الأطر الحزبية، أو رجال الأعمال المتربعين على ثروات طائلة، أو من الإعلاميين الذين فرضوا أنفسهم على المهنة في تشويه صارخ لوجهها الناصع و تحوير مخل لرسالتها بوسائل و طرق مختلفة، و أنه لا رغبة مطلقا و كذلك لدى من هم حولكم من المستشارين أن يطلعوكم على ما يكتب المغمورون من رعيتكم لأمور معلومة في نفوسهم بقدر أو غير معلومة إطلاقا.
نعم، لقد قررت يا فخامة الرئيس أن أكتب إليكم، و لو أن شعورا مزعجا ينتابني بأن رسالتي ستصادر قبل أن تجيء بريدكم لأنها فقط رسالة من مواطن عادي إلى فخامتكم الموقرة و أنها لن تصل أيديكم رغم أن محتواها لا يتجاوز ذكر بعض هم الوطن الذي أنتم مسؤولون عنه أمام الله و ضميركم و شعبكم.
و مهما يكن فها كم، بعد ما يناسب فخامتكم من الاحترام، يا سيادة الرئيس متن رسالتي إليكم :
يقولون إن البلد يغص بالشعراء و العلماء و النوابغ في كل تخصص و فن. و لكن الحقيقة المرة أن الأمر ليس بهذا الإطلاق المفرط و هذه الادعائية الجامحة التي أعمت الأبصار و غيبت البصائر عن واقع الحال الثقافي المتردي و الفكري العقيم و العلمي السقيم و الديني المخترق و الأخلاقي المتدني و الإنتاجي الضعيف و الانضباطي الغائب.
• فالشعر يتردى حاله باضطراد من جراء غفلة الشعراء أنفسهم عن الالتزام فيه و به لحب الوطن و السعي إلى تحفيز أبنائه على "العمل" و "التعلم" حتى أصبح "خمارة" سكيري الحرف و"عكاظ" شعراء "الهجاء" و "المدح" في المآتم و محافل التفاخر بالحسب الوهمي و المال المشوب بخيانة البلد و تعطيل تنميته و في مهرجانات السياسة المرتجلة في تملق من أجل جاه عرضي و مال زائل.
• و أما "الدين" فقد ألبس، بعيدا عن دوره في تصحيح المعتقد و تقويم المسلكيات و بناء الإنسان المتوازن ذي النفس الزكية المنتجة و العادلة، حلةَ الطمع بقوة الخرافة في المستغفلين من العامة و المرجفين من الخاصة، و في أموال أهل الخليج و غيرهم حيث نشأ تنافس على أشده في:
استيراد مختلف الدعوات و المذهبيات و الطرائق الغريبة على الحضرة الدينية الأصلية عند أهل البلد،
و بناء مُستغرقِ ببعض الأموال المُقدمَة لتشييد مصليات تنتشر في كل خواء الأرض من الساكنة و هي أقرب في شكلها المعماري إلى الكنائس الصغيرة لا إلى مساجد في هيبتها و محوريتها وعظمتها،
و في المظهرية بالاختلاف الفقهي على المسائل الدينية التي لا تتجاوز في حقيقة أمرها مسائل مبتدعة كالقبض و السدل و النافلة أثناء الخطبة و التأمين سرا و جهرا و دعاء القنوت قبل أو بعد السورة، دون المسائل الكبرى التي تخل بالمعتقد و تحدث الشروخ العميقة في نسيج المجتمع الطبقي و الشرائحي.
• و عن "التاريخ"، الذي يشكل فرس رهان طبقة استعلائية ترى فيه رفعة البعض الذي تنسب إليه نفسها تفضيلا على البعض في خانة الدونية، فالواضح أن الصراع متوقف على الإرادة المعتلة لإبقائه:
o جامدا في بعض "مدنه" التي سقطت عمليا في جب الإهمال،
o متوقفا على الرمزية النفعية الاستجمامية في حل مطلق من البحث عن العمق الحضاري فيها،
o متعمدا الإبقاء في ميوعة، لا تخفى، على القديم منه الذي لم يوثق حتى و افتعال جديد يعتمد أسلوب البلبلة و خلط الأوراق؛
و هو البحث الذي لو أنصفته الكتابة المجردة و الدراسة العلمية المنهجية المستقيمة لكان بحق محفزا على استدراك ضياع الحاضر الذي ليس إلا المستقبل الواعي البناء إن تم تصحيح منهجه وضبط مساره.
• وعن "جهاد" الآباء النبيل في تسميته و مبتغاه فقد أصبح مجرد "مقاومة" تيارية لا تسمن فصولها من سوء كتابة و لكنها تغني من تسويق تحريفاتها على غير ما هو حقيقة الذي سطره الأجداد الأفذاذ من الملاحم و تركوا من بالغ الأثر المكتوب و الشفهي الخالي من الإجحاف و الزيادة و الغلو، و من بالغ التواضع و خالص الإيمان و الاستعداد للآخرة.
• و عن الوزارات و عموم الإدارة و أداء الموظفين في تشعباتها و مخرجات العمل فيها و أثرها على المواطن و البلد فإن الأمور تجري على غير ما يشاع من المهنية و الانضباط و حسن "الحكامة"، لأن زبد الكثرة غطى على مهنية القلة حتى تمكن منها الإحباط و أحاط بأفرادها اليأس. و أما المكاتب فإنها لا تستجيب لمتطلبات الأداء المهني المنشود و إرضاء ضروري الانسيابية و الحيوية و الفاعلية و السرعة. أما المسؤوليات فمتداخلة و ضبابية و مفتقدة لفعل التخطيط مما يضع على الدوام الوزراء و المقربين منهم في حيرة من واقع أمرهم و هم يعلمون أسباب إخفاقهم و مصدر اختلاط الأمور عليهم، فمشارب الموظفين و العمال شتى و ضغط سيل الأعداد الكبيرة كابح شديد التأثير.
• أما الحركة الاقتصادية فإنها ما زالت، على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت لتحسين أدائها و السياسات المتتالية التي رسمت لفائدتها، أقرب في الأداء إلى الحركة التجارية الربحية الشيقة (mercantile) في ثوب الاستيراد لكل شيء من دون اعتبار حكم القيود الجمركية و دفع الضرائب المستحقة و فوقية القوانين التجارية و التنظيمية و رعاية مصلحة الوطن الكبرى. و هو الضعف عن الإقلاع الاقتصادي على مستوى القاعدة الذي يفضح هذه الأيادي المسلطة من خلال رجال أعمال لا هم لأغلبهم إلا الاستيراد المحموم بعملة البلد الصعبة المجنية من تصدير و استغلال مقدراته المنجمية و السمكية الهائلة، لجني الأرباح السهلة و تكديس الأموال دون جهد ملموس لخلق أطر تكفل فرص التشغيل لمواطنيهم في مصانع و ورش يشيدونها و يطورون الأداء فيها بأيدي عاملة وطنية يسعون أيضا إلى تكوينها و تدريبها و تأهيلها لتحمل مسؤولية تصنيع البلد و تحقيق استقلاليته بل و إدخاله عصر التصنيع المحلي و النافسة في الأسواق العالمية.
• و عن الإعلام فإن بعض علامات الفشل لا تخطئها العين المجردة و كذا اتساع دائرة التملق فيه و الإنحراف عن المواثيق التي تنظمه و الأخلاقيات التي تضبط سيره أوضح من شمس النهار. و ما الفضائح التي تهز أركانه من حين لآخر في عمومه و خصوصه و مؤسسات تنظيمه و توجيهه بفعل أهله من المشرفين و القيمين لا سواهم إلا دليلا على المسار المعوج الذي يسير فيه. و بالطبع يبقى أن شرفاء المهنة و هم كثر شرع البعض منهم في مغادرة مركبته التي بدأ الطوفان يحاصرها إلى حقول أخرى فيما البعض الآخر يتوارى عن دائرة الصخب حتى لا تحرقه شمعة الضياع المشتلعة.
• و الحديث عن البعثات الدبلوماسية هو حديث لا بد منه لـ"غائب" عن تفعيل الدبلوماسية المنتجة و تحريك التبادل الاقتصادي و العلمي و الثقافي كما تشاهد البعثات و هي تفعل على تراب الوطن عبر معارضها التجارية و تظاهراتها الثقافية و الفنية لمصلحة التعريف ببلدانها و نشر إنتاجها الفكري و تسويق منتوجها الاقتصادي وبيع بلدانها عموما. و هي البعثات التي تصرف عليها الدولة أموالا طائلة من خزينتها العامة دون مردودية على قدر المصروف.
• على مستوى القواعد العريضة من الشعب التي تحرمها من حقوقها الشرعية و تهين كرامتها:
القبلية/الارستقراطية المتسلطة،
و تشكيلات الأحزاب "المشخصنة"،
و أطر التملق المحترفة المتشعبة،
و دوائر حماية كبار الضباط الضيقة،
حتى وجدت نفسها موزعة بين الشك الغزالي في "اليقين" بأن شيئا تحقق مما لم يكن معهودا:
o من البنى التحتية التي كانت شبه معدومة،
o و هيبة الدولة التي كانت غائبة
و بين "الشك" في أن الأمور قد تتحسن أكثر في ظل وجود قوى الفساد المصرة على أن يظل واقع الحال مغطى بكل الأساليب الهابطة فيما تبقى عصية على العزل و الإقصاء و الإبعاد و المحاسبة.
فخامة رئيس الجمهورية،
والله إن البلد لبحاجة ماسة إلى مراجعة جذرية لعديد المسلكيات الخطيرة التي تعيق عملية تنميته وتضعف لحمته و تعرقل تقدمه؛ مسلكيات يريد لها أهل قمة الهرم في النظام الاجتماعي الطبقي التفاضلي الشرائحي أن لا يتعرى من زائف اللبوس الديني المحرف الذي يعجز عن ستر مساوئه و علاته الكثيرة و على رأسها:
• الترفع عن العمل الميداني و انتشار الكسل الارستقراطي الذي يسخر تكريسه المفضوح شرائح عريضة من المجتمع لخدمة أقلية مقابل الفتاة من حقوقهم المهدورة،
• الإقبال بمنطق القبلية و الجهوية و الطبقية الإثنية بنهم شديد و جرأة مطلقة على اختلاس و نهب و تبذير المال العام من أي موقع و بكل الأساليب و الحيل بحجة أنه حق مكتسب و نصيب محفوظ،
• الانغماس في التحالفات التي تحفظ هذا الإرث المدمر من الاعتبارات الاجتماعية التي ولى زمانها و انقطعت عن الواقعية أسباب الأخذ بها على إيقاعات الوعي الذي هبت نسائمه من كل حدب و صوب و تعالت الأصوات باستبداله بالعدالة و المساواة و وطن اللحمة و المواطنة.
و إنني لست أشك لحظة يا فخامة رئيس الجمهورية أنه إن وقعت رسالتي المتواضعة بين أيديكم و قرأتم محتواها ستدركون بـحسكم الوطني الكبير أن ما حوته ليس سوى مرصعات سرج "فرس رهانكم" في معركة "موريتانيا الجديدة" التي أعلنتم عنها و سعيتم إلى تحقيقها، و أنكم ستجندون للانتصار فيها كل الطاقات الخيرة من حولكم و من المغمورين و المنسيين و المهمشين في جنابات الدولة و ستضعون المعايير المناسبة للبناء التي لا تخترقها الأهواء و لا تسقطها أنفاس "السيبة" المزمنة الحارقة في كل أوجهها البغيضة.
و في الأخير تقبلوا فخامة رئيس الجمهورية خالص الود و فائق التقدير و كامل الاحترام و أصدق التمنيات لكم بالتوفيق و النجاح لخير البلاد و المواطنين و قد قال الحق في محكم التنزيل:
)إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ(
و قال: )وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإْصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)
و قال: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) صدق الله العظيم.