في السابع من شهر يناير 1970 انتقل إلى رحمة الله في مدينة داكار السنغالية المناضل البطل سيدي محمد ولد سميدع، أحد أبرز رواد وقادة الحركة الوطنية الديمقراطية في موريتانيا، وهو في زهرة شبابه، وذلك بسبب مرض عضال أصابه؛ فكان ذلك رزءا فادحا على الشعب والوطن، وعلى أصدقاء ورفاق الفقيد الذين عرفوه وناضلوا معه في زمن العسرة ضد الاستعمار الجديد والصهيونية وضد العبودية والعنصرية والتخلف.
ولد سيدي محمد ولد سميدع - حسب بعض المصادر- سنة 1946 في وسط وطني كريم؛ حيث كان والده مفتش التعليم العربي الأستاذ محمد الأمين ولد سميدع، وهو أحد رواد النهضة العربية في موريتانيا، ومن بين أفراد الكوكبة التي وجه إليها الرئيس المختار ولد داداه رسالة يطلب فيها النفير للاضطلاع بمهمة إصدار أول جريدة عربية في موريتانيا هي "موريتانيا الجديدة". أما والدته - وهي نعم الأم- فكانت السيدة عيشه بنت اخليل أخت الإداري الكبير ورجل الدولة السيد محمد ولد اخليل - أطال الله بقاءه- الذي شغل في فترة تأسيس موريتانيا مناصب إدارية عدة من بينها منصب مدير ديوان الرئيس المختار ولد داداه.
وقد أظهر سميدع باكرا تفوقه في الدراسة، لكنه فوق ذلك أظهر اهتمامه بالشأن العام ومواهبه القيادية وحبه وإخلاصه للوطن.
وكانت أولى خطواته السياسية مع طاقم جريدة "موريتانيا الفتاة" خلال عطلة السنة الدراسية 63 - 64 حيث التحق بها محررا وطابعا وموزعا.
وخلال السنة الدراسية 64 - 65 كانت صيحته المدوية الشهيرة أمام الرئيس المختار ولد داداه باسم زملائه، المطالبة بترسيم اللغة العربية؛ والتي يبدو أنها لم تلامس وجدان الرئيس فحسب، بل طبعت وحددت أيضا تاريخ موريتانيا المعاصر برمته.
لقد كانت اللغة العربية منعدمة يومها، والفرنسية مسيطرة على جميع أوجه الحياة في موريتانيا الجديدة سيطرة مطلقة تشمل المدرسة والإدارة والشارع، ولا يكاد البيت ينجو من وطأتها.
ومنذ إطلاق تلك الصيحة، وإلقاء الأستاذ محمذ ولد باباه خطابه الشهير باسم هيئة التدريس باللغة العربية خلافا للعادة ولإرادة السفارة الفرنسية وأغلبية الأساتذة، ودعمه لمطالب الطلاب وحمايته من طرف الرئيس المختار بدأ العد التنازلي لنهاية تلك الحقبة.
وفي شهري يناير وفبراير سنة 1966 كان سميدع أحد قادة طلاب الثانوية الوطنية (جامعة الأمس) الذين رفعوا لواء الدفاع عن اللغة العربية وقادوا إضراب 9 فبراير احتجاجا على بيان الـ19 وتحريض السفارة الفرنسية ضد العربية.
وقد اعتقل سميدع ونفي إلى معتقل واحة انبيكة مع عشرات المثقفين والتلاميذ الذين اعتبروا ظلما مسؤولين عن تلك الأحداث الأليمة التي كان وراءها صراع الأجنحة داخل السلطة ومحاولة كل منها القضاء على غريمه.
ولما أطلق سراحه ضمن الطلاب وبعض الشخصيات أصدر سميدع عددا أبيض من "موريتانيا الفتاة" ندد فيه باعتقال إدارتها، ثم انخرط في العمل الوطني والقومي باسم حركة القوميين العرب. ولما نقل إلى الشمال وأخضع لإقامة جبرية هناك اندمج بسرعة في عمال شركة "ميفرما" المعذبين في أرض الوطن، وبدأ التنسيق مع قيادة إضراباتهم المتمثلة في السيدين أحمد محمود ولد أعمر - رحمه الله- وينج ولد أحمد شلل (شيخ ألاك) أطال الله بقاءه. كما ساهم في حركة التضامن مع مصر وسوريا بعد حرب حزيران 1967 تلك الحركة التي أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين موريتانيا وأمريكا وبريطانيا وجلاء السفارة الأمريكية من انواكشوط وخلقت تيارا شعبيا واسعا تم التعبير عنه في التبرع بسخاء للمجهود الحربي وفي جولة الرئيس المختار عبر إفريقيا حتى قطعت جميع علاقاتها مع إسرائيل.
وفي سنة 1968 التحق سميدع بجامعة داكار عن طريق المسابقة، ومنها أشرف على تنظيم العمل الطلابي وأصدر نشرة "الكفاح". كما قاد في داكار وفي موريتانيا مع زملائه القوميين حركة الاحتجاج الواسعة على مذبحة عمال ازويرات التي كانت - إلى جانب هزيمة 67- نقطة تحول في فكر حركة القوميين العرب في موريتانيا، وانطلاقة شرارة الحركة الوطنية الديمقراطية التي ظل يقودها إلى أن أقعده المرض.
وفي سوريا أسس سميدع مع بعض أصدقائه - بعد أن أقاموا أياما في الحي اللاتيني المحرر في ضيافة لجنة التسيير الذاتي المنبثقة عن ثورة 68 - وكوكبة من الطلاب الوطنيين، الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا بقيادة الطالب المحجوب بن بيه (الدكتور المحجوب) في النصف الأخير من سنة 1968 وهو الاتحاد الذي وحد الطلاب والمتدربين الموريتانيين، وأبلى بلاء حسنا في النضال ضد الاستعمار والصهيونية والعبودية والعنصرية، ومد الحركة الوطنية وحزب الكادحين بعشرات الأطر والقادة الشجعان.
وكان سميدع - رحمه الله- أحد القادة الستة الذين شاركوا في مؤتمر حركة القوميين العرب في قرية تاكوماجي بغورغول (سيدي محمد سميدع، أحمدو ولد عبد القادر، بدن ولد عابدين، محمد المصطفى بدر الدين، عينينه ولد أحمد ولد الهادي، وكاتب هذه السطور) وهو المؤتمر الذي تم فيه العدول عن الفكر القومي الضيق واعتناق الفكر الوطني الديمقراطي الذي ينبذ القومية العنصرية ويؤمن بالشعب الموريتاني ككل، ويكافح الاستعمار والصهيونية والرجعية. ورغم أن ذلك التحول لم يتم بصورة نهائية إلا بعد ذلك بسنة في مؤتمر كيفه، إلا أن مؤتمر تاكوماجي مثّل منعطفا تاريخيا تمهيديا لا غنى عنه في ذلك المجال.
وإذا كان حزب الكادحين وجريدة "صيحة المظلوم" لم يريا النور إلا بعد سنتين ونيف من وفاة سميدع خلافا لما يدعيه المدعون، فإن فكر سميدع وإقدامه وشجاعته كانت البوصلة التي يهتدي بها مناضلو ذلك الحزب وتلك الحركة. وقد تجلى ذلك في المراثي التي قيلت في سميدع، وفي الأغاني التي تمجده، وفي نعي "صيحة المظلوم" له في ذكراه، وفي الكتاب الذي أصدرته عنه يومئذ؛ والذي سقط مع أرشيف الحركة والحزب في أيدٍ أخرى أثناء القمع الذي سلط على رموز الحزب والحركة في العهد الانقلابي الأسود. ويمثل "الگاف" التالي وقصيدة الشاعر أحمدو ولد عبد القادر - التي سننشرها ضمن هذا الملف- دليلا قاطعا على ذلك :
سيدي محمد گـــال مات ** غير اص موت أروع بطل
ألا مات امل لـين احيات روح الكـــــــــفاح افكل اطفل
ألا ماتت صدراي خلات أُورگــــها وادفـــاها والــظل.
ذلكم هو المناضل سيدي محمد سميدع رحمه الله؛ أحد أبرز قادة ورموز الكادحين الذين قهروا الاستعمار الجديد، وناصروا القضايا العادلة في فلسطين وجنوب إفريقيا وفيتنام وغيرها، وفرضوا إلغاء الاتفاقيات المذلة مع فرنسا، وإنشاء عملة وطنية هي الأوقية، وتأميم ميفرما، وترسيم اللغة العربية وكتابة اللغات الوطنية الأخرى، وإصدار ميثاق وطني يلغي استغلال الإنسان للإنسان، فأعطوا للاستقلال الوطني مضمونا، وللدولة قوة ومصداقية.. وذلك قبل أن تعصف حرب الصحراء والانقلاب الرجعي بكل تلك المكاسب ويعيدا البلاد والعباد إلى المربع الأول.