العلامة محمد سالم بن أبي المعالي (العالِم العالَم)
يعتبر العلامة محمد سالم بن أبي المعالي "الشمشوي اليعقوبي نسبا، المالكي مذهبا، الأشعري اعتقادا، المغربي قطرا، الشنجيطي دارا"، المولود "يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الأولى عام 1333هـ" ـ الموافق 1914م؛ إحدى شخصيات جيل التأسيس، التي جمعت بين الحسنيين، حيث علَّت من المناهج التربوية الحديثة، بعد النهل من المعارف المحظرية الأصيلة.
الدراسة المحظرية: في بيت والديه العلامة أبي المعالي والصالحة فاطمة الصغرى بنت محمد بن العتيق بدأ الشيخ محمد سالم دراسة القرآن، ثم بعثاه إلى الولية آمنة بنت يوسف وهو في السابعة من عمره، حيث أكمل عندها القرآن في ثلاث سنين، وهو في العاشرة من عمره.
بعد إكماله للقرآن عاد إلى بيت والده، ومكث سنين يعيد قراءته عليه.
ثم قرأ الرسم والقراءات على والده، ودرس عليه المرشد المعين وألفية ابن مالك مع احمرار ابن بونا وطرته، إلا ثمنا واحدا قرأه على سيبويه البلاد يحظيه بن عبد الودود وابنه العلامة التاه.
ثم درس الإضاءة والسيرة على والده.
وكانت دراسته للفقه على عدة شيوخ، منهم الفقيه المام بن أبابَ التندغي، والسيدة امّينَ بنت أحمد بن باهي التندغي، وقد نعتها بالخبرة في مختصر خليل.
وكانت المرحلة الأخرى من الأخذ متركزة على المطالعة: فنظر في كتب البيان والتاريخ والرياضيات والجغرافيا والعلوم. وساعده على المطالعة الاهتمام بنقل الكتب، وهو ما يزال في مقتبل عمره، فعندي نسخة من نظم الشيخ محنض بابه بن اعبيد الديماني لإعراب الجمل، كتبها الشيخ محمد سالم ضحوة الثلاثاء السابع والعشرين من ربيع الثاني عام 1349هـ، أي أنه في نحو السابعة عشر من عمره.
ومن فوائد كناشه المتعلقة بالمطالعة، وقد كتبها من خط العلامة اباه: (يقال عند رفع الكتب للمطالعة: اللهم ارزقني علما وفهما كاشف الحجب عن وجوه هذه المعاني، حتى أطلع على هذه المسائل).
وقد توج دراسته المحظرية بالانخراط في طريق السادة الصوفة الهداة، فأخذ الطريقة الشاذلية عن العلامة التاه بن يحظيه.
الدراسة الحديثة: شارك في البعثة التعليمية إلى دولة تونس بتاريخ 09/ 02/ 1962م، وكان معه فيها: شيخنا يابه بن محمادي، ومحمد حبيب الله بن امّاتِ السباعي، ومحفوظ بن عبدين سيدي الإدولحاجي، ومحمد المهدي بن لعويسي السباعي.
وقد كان مقامهم بالحي الجامعي برأس الطابية، حيث تلقوا بمدرسة ترشيح المعلمين في تونس تكوينا مكثفا على المناهج التربوية الحديثة، أيام كان مديره الأستاذ المشهور محجوب بن ميلاد (1916م/ 2000م). وتم اختتام ذلك التكوين في الثاني والعشرين من الشهر السادس من عام 1962م.
وكان الشيخ محمد سالم ـ رحمة الله تعالى عليه ـ أيضا ضمن مجموعة المستشارين التربويين بوزارة التهذيب والشبيبة ببلادنا، الموفدين إلى كلية التربية بعين شمس بالقاهرة لتلقي دراسات تربوية بها، استمرت من ابتداء شهر مايو 1964م إلى 20 يونيو 1965، وتخللتها إجازة صيفية من أول أغسطس حتى 19 سبتمبر.
وجاء في كشف ذلك التكوين، الموقع من طرف مراقب الكلية: حسني عبد الرحيم، وعميد الكلية والمشرف على الدراسة: د. يوسف صلاح الدين قطب؛ أن السيد محمد سالم بن أبي المعالي كان (مثابرا على الحضور والاشتراك في المناقشات الخاصة لهذه الدراسة، كما أنه أدى بنجاح الامتحانات التي عقدت له خلال يونيو 1965م).
وكان تقديره في مقرر الإشراف الفني: جيد، وتقديره في مقرر الصحة النفسية: جيد جدا، وتقديره في تدريب ميداني في المناطق التعليمية على الإشراف الفني والإدارة المدرسية: جيد. وهكذا... مما يدل على تشبعه بالمناهج التربوية الحديثة.
ومن قصصه الطريفة خلال ذلك التكوين بمصر، أن سائلا سأل أحد أساتذتهم عن وجود ثلاثة أفعال متوالية في جملة واحدة، وجاء جواب الأستاذ نافيا وجود ذلك إطلاقا، فما كان من الشيخ محمد سالم إلا أن طلب المشاركة ليثبت وجود ذلك مستدلا بقول الله تعالى: (تفور تكاد تميز من الغيظ). حدث بذلك الأستاذ المرحوم أحمدو بن ممون العلوي.
ولم يكن أخذه إبان تلك الزيارة عن طريق الكلية وحدها، بل جالس علماء الازهر مفيدا ومستفيدا، وباحثهم بخصوص المصنفات العلمية. يقول في مقدمة شرحه لنظم قرة الأبصار، متحدثا عن النظم: (ولم أجد له ذكرا في الجامع الأزهر، ولا في مكتبات القاهرة، بل لم أجد من يعرفه إلا في موريتانيا بلاد الشناجطة).
المسار المهني: زاول مهنة التعليم، وعمل مستشارا تربويا بالوزارة، ودرّس في مدرسة تكوين المعلمين
وقد وقفت على ورقة كتبها بتاريخ 08/ 06/ 1962م، تنبئ عن مدى استيعابه للمناهج التربوية الحديثة والمزج بينها وبين ثقافته المحظرية الواسعة. حيث تحتوي على مقارنة بين: طريقة تدريسه في عهد الاستعمار، حيث لا يوجد في المدارس كتاب، وإنما الاعتماد على الذاكرة، وطريقة التدريس التي شاهد أثناء التكوين بتونس.
وبعد أن قام بسرد الخطوات التي اعتاد والخطوات التي شاهد، وعدد نقاط القوة في كلتا الطريقتين ومساوئ كل منهما، جنح إلى ضرورة الجمع بينهما، منبها إلى أنه لو أضيفت نقاط قوة إحداهما إلى نقاط قوة الأخرى لكانت طريقة فضلى.
الإنتاج الأدبي والعلمي:
من تآليفه:
الدرة اليتيمة: وهي "تأليف صغير الحجم، كثير العلم، في الرد على من أنكر المعاد الجسماني والبعث والبرزخ ويوم الآخرة، وادعى أن كل إنسان له يوم آخرة يخصه، وجعله يوم موته وسؤال الملكين وملك الموت". وقد شرعت في تحقيق هذا الكتاب، بعد أن استأذنت في ذلك أبناء مؤلفه الكرام، فالله يفتح وييسر في ذلك.
شرح قرة الأبصار: وهو عبارة عن خياطة لتعليق والده مع النظم في شرح، بعد أن "كان موضوعا بصفته طرة"، وبين الشيخ محمد سالم منهجه في الخياطة في مقدمته: "ثم إني كتبت هذه الطرة بصفة الشرح، وميزت كتابة النص كما هو معهود بالحبر الأحمر والشرح بالحبر الأسود. وقد زدت فيه أشياء (...) من ما أراه صوابا...". وكانت انتهاؤه منه "عصر الأربعاء خامس شوال سنة 1388هـ الموافق 25 دجنبر 1960م".
تاريخ العرب بعد الإسلام في ستة مجلدات: ذكر في مقدمات شرحه لقرة الأبصار أنه "نجز منه ثلاثة أجزاء وثلاثة مسودة". وقد خصص بعضه لتاريخ البلاد، وهو مهم جدا. لكن هذا الكتاب ضائع لحد الساعة للأسف، لا يوجد منه إلا بعض التساويد.
ـ تقييد في أنساب أهل بارك الله.
ـ تقييد في أنساب الأخوال.
ـ شرح ابن عاشر بالشواهد.
ـ رحلة (نظم).
ـ فتاوى في بعض النوازل.
ومن شعره مرثيته البديعة لفتى بن سيد آمين (ت1364هـ)، ومنها كما رويت عن الوالد الشيخ أحمد بن أبي المعالي (امّانّي)، رحمهم الله تعالى، بتاريخ 22/12/ 2010م:
أيا طالب الدنيا لتبك وتضجرا == ودع عنك من لذاتها ما تخمرا
وودع سليمى والرباب وتربها == وطرفا لها غضا وثغرا مؤشرا
فإن صروف الدهر لم تبق لذة == ولم تبق معروفا ولم تبق منكرا
ولم تبق مخذولا ولم تبق فاضلا == ولم تبق حيطانا ولم تبق أدؤرا
فتانا أديب الخمس سيد عصره == تولى عن الدنيا وغادرها ورا
أديب همام عالم عامل فتى == تقي نقي سيد البدو والقرى
تراه إلى الخيرات يغدو مسارعا == دواما وعن فعل الخنا قد تكبرا
لقد قلت للصطلين لما ثوى بها == فتى وبه أفق الثرى صار أغبرا:
ثواك فتى "لم تحمل الأرض مثله == أبر بميثاق وأوفى وأصبرا"...
فما مات من أبقى ثناء مخلدا == وما عاش من قد عاش عيشا مكدرا...
ومن نظمه قوله في رحلته إلى السينغال:
حمدا لمن قد جعل الأسفارا == تسفر عن طبع الفتى إسفارا
صلى على الذي يقول: سافروا..== إلخْ، ومعناه: بخير تظفروا
تلقون عبدا من عباد الله == نظره يصلح كل واهِ
وآله وصحبه من اقتفوا == آثاره ومن بإحسان تلوا
وبعد، فاعلم أنني أنشأت == نظام رحلة بها قصدت
من موريتان سينـﮕـال كله == وقد ذكرت من وجدت فضله
وقد ذكرت ما أتيت من قرى == والضيف مخبر لأهل بالقرى
مبارك ابتدًا والانتهاء == ميمون الانتها والابتداء
... الخ
ومن مظاهر مدنية الشيخ محمد سالم: اهتمامه بتدوين يومياته ورحلاته ومسيرته الدراسية والمهنية، فقد عقد رحلته إلى السنغال في رجز بديع، وكان يدون يومياته خلال زيارته للحرمين وحجه في مذكرة جيبية، وقام بترجمة نفسه في شرحه لقرة الأبصار ترجمة مختصرة آثر فيها هضم النفس والاقتصار على الضروري، وقدم بين يدي تلك الترجمة بتوطئة تعرض فيها لكل من ترجم لنفسه من الأعلام قديما وحديثا.
وبذلك أبقى لنا جزء مهما من حياته، كان مآله النسيان لولا تدوينه، وكم من عالم من علماء هذه البلاد ضاعت أخباره، نتيجة التفريط في التدوين!!
ثناء العلماء عليه: أشاد بالشيخ محمد سالم بن أبي المعالي علماء عصره ومن أدرك من شيوخ الجيل الذي قبله، ويكفي في هذا المقام أن ننبه إلى أن أول تآليفه نال تقريظ وإعجاب كل من الشيوخ: محمد الأمجد بن محمد الأمين بن أبي المعالي، والشيخ بن محمد الحافظ، والمختار بن ابلول، ومحمد عالي بن عدود، ومحمذ بن محمد فال، وحامد بن محمد فال، ومحمد بن باباه الشريف، ومحمد فال بن البناني.
وقد حدثني الأستاذ الفاضل أحمد بن امين بتاريخ 13 ـ 09 ـ 2017م. عن القاضي إسماعيل بن الشيخ سيدي أن الشيخ عبد الله بن الشيخ سيديا قام للشيخ محمد سالم بن أبي المعالي عن إلويشه، حين وفد عليه ذات مرة في بعض الأمور.
وفاته: توفي الشيخ محمد سالم بن أبي المعالي ـ رحمه الله تعالى ـ في شهر سبتمبر من عام 1975م. بعد عمر زاد على الستين بيسير، ملأه بالعلم والعمل والذكر الحسن تبارك الله أحسن الخالقين.
بقلم: الباحث/ المعلوم ولد المرابط