سنواصل في هذه الحلقة من سلسلة "حتى لا نُضَّيِّعَ فرصة 2019" طرح الأسئلة المتعلقة بغياب الفاعلية أو الفعالية عن الفعل المعارض، ولماذا لم تكن النتائج السياسية المتحققة تتناسب مع حجم الجهود والتضحيات المبذولة خلال ربع قرن من النضال؟
ذكرنا في الحلقة السابقة من هذه السلسلة بأن من بين أسباب غياب الفعالية عن الفعل المعارض هو أن هذه المعارضة كثيرا ما تتفكك في اللحظات السياسية الحرجة والحاسمة، وقدمنا أمثلة على ذلك. في هذه الحلقة سنتحدث عن نقطة ضعف أخرى من نقاط ضعف المعارضة، وتتمثل نقطة الضعف هذه في غياب الرؤية والتخطيط عن العمل المعارض، والذي ظل خلال ربع قرن تحركه وتوجهه ردود الأفعال بدلا من أن تحركه رؤى وخطط مرسومة.
صحيح أن المعارضة ستبقى ملزمة دائما باتخاذ ردود أفعال آنية على بعض القرارات والمواقف والتصرفات التي تتخذها السلطة الحاكمة، فهناك قرارات وأفعال لابد لها من ردة فعل آنية، والسلطة في بعض الأحيان قد تتعمد إشغال المعارضة وإنهاكها بمعارك جانبية، والمعارضة من هذه الزاوية ستبقى مجبرة على الانشغال بتلك الأمور، ولكن كل ذلك يجب أن لا يحول دون وضع الخطط ورسم الاستراتيجيات الهادفة إلى فرض التغيير في هذه البلاد المتعطشة إلى تغيير.
وإذا ما اكتفينا بهذه الفاصلة الزمنية القصيرة (2018 ـ 2019)، والتي من المفترض بأنها ستكون فاصلة حاسمة في مصير البلاد، فسنجد بأن المعارضة الموريتانية لم ترسم حتى الآن أية خطة لفرض التناوب السلمي على السلطة في منتصف العام 2019، وبأنها ما تزال مرتبكة، ولا تزال في إجازة مفتوحة في انتظار أن يفصح الرئيس محمد ولد عبد العزيز عن أفكاره وعن خططه.
تدخل المعارضة الموريتانية في إجازة مفتوحة، وذلك بسبب أنها لا تعرف إن كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز يفكر في البقاء في السلطة، أم أنه يفكر في توريثها لأحد أركان نظامه، أم أنه يفكر في ترك صناديق الاقتراع تحدد اسم رئيس موريتانيا المقبل؟
تبدو المعارضة الموريتانية وكأنها قد قررت أن تظل في إجازة مفتوحة في انتظار أن يفصح الرئيس محمد ولد عبد العزيز عن أفكاره، وأن يحدد خياراته، لتقرر هي من بعد ذلك طبيعة ردة الفعل المناسبة على ذلك الخيار أو ذلك المسار الذي سيختاره الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
إن أكبر صفعة يمكن أن يوجهها الرئيس محمد ولد عبد العزيز لمعارضة تعتمد في نضالها على ردود الأفعال، هو أن لا يكشف لها عن أفكاره ولاعن خططه، فمثل ذلك سيربكها وسيجعلها غير قادرة على التحرك. هذا هو ما يحدث الآن، ولا أدري إن كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز يمارس هذا الأسلوب، أي عدم كشف الأفكار والخطط، عن وعي أو عن غير وعي، الشيء الأكيد أن مثل هذا الأسلوب سيبقى هو الأسلوب الأمثل لإدارة الصراع مع معارضة تعتمد في فعلها النضالي على ردود الأفعال.
حتى أركان نظام ولد عبد العزيز، وهنا أتحدث عن الوزير الأول، وعن رئيس الحزب الحاكم، وعن رئيس الجمعية الوطنية، حتى هؤلاء فإنهم ليسوا على إطلاع بما يفكر فيه الرئيس ولد عبد العزيز وبما يخطط له، وهم من حيث ما يملكون من معلومات في هذا الشأن، فإنهم يتساوون مع كاتب هذه السطور، والذي لا يملك أي معلومة عن هذا الموضوع. من هنا فإنه يمكن القول بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد نجح حتى الآن في إخفاء أفكاره وخططه المتعلقة بهذا الملف، تماما كما نجح ذات مرة في إخفاء وضعيته الصحية بعد الإصابة برصاصات أطويلة، وهو الشيء الذي مكنه في نهاية المطاف بأن يحول تلك الإصابة من إصابة في جسده إلى إصابة في جسم المعارضة، وأن يحولها بالتالي ـ أي الإصابة ـ من مأزق سياسي خطير إلى مكسب سياسي كبير.
يمكن القول بأنه لا معلومات متوفرة حتى الآن عن أفكار الرئيس وعن خططه فيما يتعلق بملف 2019، وتتساوى في ذلك الموالاة والمعارضة، وإذا ما لجأنا إلى التحليل والاستنتاج لقراءة أفكار الرئيس ولكشف خططه المتعلقة بهذا الملف، فإننا لن نصل إلى استنتاجات ذات قيمة كبرى.
تحليليا يمكن أن نتحدث عن ثلاث مراحل أو ثلاثة منعطفات مر بها هذا الملف في تفكير الرئيس ولد عبد العزيز:
المرحلة الأولى: توريث السلطة للابن
في هذه المرحلة كان تفكير الرئيس محمد ولد عبد العزيز منصبا حول توريث السلطة للراحل أحمدو ولد عبد العزيز رحمه الله، وكان العمل في هذه المرحلة يركز على تهيئة الظروف لعملية التوريث، وفي هذه المرحلة طغى خطاب تجديد الطبقة السياسية على الخطاب الرسمي، وتم تنظيم لقاء الشباب بالرئيس في 20 مارس 2014، وجاءت وثيقة 14 يناير 2015 الداعية للحوار والموقعة من طرف الوزير الأول، وقد جاء في هذه الوثيقة بند يتعلق بفتح سن الترشح للرئاسة، وقد كان ذلك من أجل استقطاب بعض قادة المعارضة ممن تقدم به العمر، ولكنه كان أيضا من أجل فتح سن الترشح من حيث الحد الأدنى، وهو ما كان سيتيح الفرصة للراحل أحمدو ولد عبد العزيز لأن يترشح لرئاسيات 2019.
هذه المرحلة انتهت مع نهاية العام 2015، وتحديدا في يوم 22 ـ 12 ـ 2015 وهو اليوم الذي شهد حادث سير أليم توفي بسببه الشاب أحمدو ولد عبد العزيز رحمه الله.
يمكنكم أن تلاحظوا بأن شعار تجديد الطبقة السياسية، والاهتمام بالمجلس الأعلى للشباب، والاهتمام بالحوار طبقا لوثيقة الوزير الأول بأن كل تلك الشعارات والملفات قد تراجعت من بعد فاجعة رحيل الشاب أحمدو ولد عبد العزيز.
المرحلة الثانية : فتح المأموريات
لقد جاءت الدعوة إلى مأمورية ثالثة في عدة مبادرات في العام 2015، ولكنها على الصعيد الرسمي لم تتم الدعوة إليها إلا في الربع الأول من العام 2016 على لسان عدد من الوزراء، كان من بينهم وزير العدل السابق، ووزير الاقتصاد والمالية والناطق الرسمي باسم الحكومة، هذا فضلا عن عدد من النواب.
جاءت فكرة فتح المأموريات في وقت مبكر من المأمورية الثانية، وكان ذلك لتفادي أخطاء وقع فيها بعض الرؤساء الأفارقة الذين لم يطرحوا فكرة تمديد المأموريات إلا في مرحلة متأخرة جدا. حاول الرئيس محمد ولد عبد العزيز أن يطرح فكرة فتح المأموريات في وقت مبكر ومن قبل أن يضيق الوقت، ولكن الضغوط الخارجية والداخلية جعلته يتراجع عن فكرة التمديد من خلال خطابه الشهير الذي ألقاه في قصر المؤتمرات في ختام حوار 2016، وشكل ذلك الخطاب إعلانا عن انتهاء المرحلة الثانية.
المرحلة الثالثة : التذبذب وعدم الحسم
شعر الرئيس محمد ولد عبد العزيز بأنه قد أخطأ بالحديث المبكر عن المأموريات، وبأن أسلوبه الأول في التعامل مع موضوع المأموريات كان هو الأفضل، ولعلكم تتذكرون بأنه كان يجيب دائما عندما يسأل عن المأموريات بأنه لن يتحدث عن ذلك الموضوع إلا في العام 2019. شعر الرئيس بأنه قد أخطأ عندما فتح المجال للحديث المبكر عن فتح المأموريات، وأيقن بأنه إن لوح بفتح المأموريات فإن ذلك سيزيد من الضغوط الداخلية والخارجية عليه، وأنه إن لوح بالخروج من السلطة وبعدم فتح المأموريات فإن ذلك سيؤدي إلى تشتت موالاته، فلم يكن منه إلا أن قرر أن يدخل الملف في دائرة الغموض من جديد، فإن أحس بأن الحديث عن الخروج من السلطة قد أصبح هو الأقوى أوعز إلى بعض أركان نظامه أن يتحدثوا عن البقاء في السلطة (حديث رئيس الحزب الحاكم وحديث الوزير الأول بعد خطاب اختتام حوار 2016)، وإن أحس بأن الحديث عن البقاء في السلطة قد أصبح هو الأقوى قدم إشارات خجولة تصب في إمكانية خروجه من السلطة في منتصف العام 2019.
هناك سيناريو آخر سأتحدث عنه في حلقة أخرى، ولكني في هذه الحلقة سأكتفي بهذا القدر من الخوض في أفكار الرئيس، وذلك لأصل إلى خلاصة تقول بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز لم يحسم حتى الآن موضوع الخروج أو البقاء في السلطة، وهو يدرك بأنه لا يستطيع أن يترك السلطة في العام 2019، ولا يستطيع أيضا أن يبقى فيها بعد العام 2019، ولذلك فهو في حالة ارتباك شديد، ولكنه، وتلك واحدة من ميزاته، يحاول دائما أن يعطي الانطباع بأنه غير منشغل بهذا الموضوع.
يدرك الرئيس محمد ولد عبد العزيز بأنه لا يستطيع أن يترك السلطة بسبب ما يثار حول فترة حكمه من فساد، وبسبب كثرة خصومه، وسيبقى مصدر قلقه الأكبر هو أنه يدرك بأن السلطة لا يمكن تقاسمها مع أي شخص آخر، وستبقى تجربته مع الرئيس السابق حاضرة في ذهنه، خاصة وأنه يعتقد بأنه هو من أوصل ذلك الرئيس إلى السلطة، ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد حاول الرئيس السابق ومن قبل أن يكمل عامه الثاني أن يتخلص من "صاحب الفضل" في إيصاله إلى السلطة.
ويدرك الرئيس محمد ولد عبد العزيز من جهة ثانية بأنه لا يستطيع البقاء في السلطة من بعد العام 2019، وأن أي محاولة للتمديد وللبقاء ستؤدي في المحصلة النهائية إلى خروج غير آمن من السلطة، وأكتفي هنا بخروج غير آمن، حتى لا أقول خروج مذل يذكر بخروج مذل لرؤساء كانوا أشد قوة من الرئيس ولد عبد العزيز، فإذا بهم يقتلون ويمثل بجثثهم.
ما يقلق هنا، هو أن الدكتاتوريين لا يقبلون في العادة بالخروج الآمن والمشرف من السلطة، وإنما يستمرون بالتمسك بها إلى أن تحين لحظة الخروج المذل.
لقد قلتُ سابقا بأن محاولة قراءة أفكار الرئيس محمد ولد عبد العزيز لن توصلنا إلى استنتاجات حاسمة، وإنما ستوصلنا إلى عدة احتمالات مفتوحة، فالراجح تحليليا أن الرئيس ولد عبد العزيز لم يحسم حتى الآن أمره، وهو يراقب تطورات الأمور وتفاعلاتها ليتخذ قراره النهائي طبقا لتفاعلاتها، ومن هنا تبرز أهمية خروج المعارضة من معارضة ردود الأفعال إلى معارضة تخطط وتأخذ بزمام المبادرة للتأثير في مجريات الأحداث.
على المعارضة أن تأخذ بزمام المبادرة، وأن تضع خطة عمل ترتكز على النقاط التالية:
1 ـ أن الإطار الزمني للتحرك وللاحتجاج من أجل إسقاط فكرة البقاء في السلطة أو توريثها من تفكير الرئيس، هو إطار زمني محدود جدا، ولا يتجاوز أربعة أشهر ، فبعد أربعة أشهر من الآن سيبدأ شهر رمضان والعطلة السنوية، وربما الانتخابات، وحينها سيكون من الصعب جدا أن تنظم المعارضة أي احتجاج ضاغط. على المعارضة أن تخصص الأربعة أشهر القادمة للاحتجاج والضغط، وإلا فعليها أن تتوقع بأنها ستكون خارج دائرة التأثير في الفترة القادمة.
2 ـ إن الأولوية في هذه الفترة يجب أن تعطى للاحتجاجات وللضغط الشعبي على النظام الحاكم، ولكن ذلك لا يعني بعدم أهمية العمل على فتح قنوات مع الرئيس بعيدا عن دائرة الإعلام لبناء الحد الأدنى من الثقة من أجل طمأنته بأن هناك إمكانية لخروج آمن من السلطة بشرط أن يقبل هو بتوفير الأرضية اللازمة التي تمكن من تحقيق تناوب آمن على السلطة.
إن معادلة التغيير الآمن مقابل الخروج الآمن من السلطة تحتاج إلى حد أدنى من الثقة ومن الشراكة بين السلطة والمعارضة، وهو الشيء الذي يحتاج لفتح قنوات اتصال بعيدا عن الإعلام.
3 ـ من المهم أن تبذل المعارضة جهدا في هذه الفترة، وذلك حتى تظهر للرأي العام بأنها تمتلك مشروعا بديلا. فهناك الكثير من الموريتانيين الذين لا يرون خيرا في النظام القائم، ولكنهم أيضا، لا يرون في المعارضة بديلا مقنعا.
يتواصل...
بقلم: محمد الأمين ولد الفاظل
حفظ الله موريتانيا..