في تعليق للمناضل الحقوقي الأستاذ إبراهيم بلال رمظان، على تدوينة نقلتها عن الأستاذ محمد جميل ولد منصور، متعلّقة بهوية لحراطين، طلب مني أن أسقط هذا الموضوع على واقع الأفارقة الأميركيين في الولايات المتحدة، لأن ما حدث لهم وللحراطين من تهجير بفعل الاستعباد والبيع وغير ذلك متشابه. وقال بأن لحراطين "أفارقة-سود موريتانيون"، وأن "مقارنتهم مع عبيد الزنوج أو مع عبيد العرب غير دقيقة، لأن لحراطين ليسوا من أصول عربية ولا بربرية كما هو معروف، أو في أغلبهم على الأقل . ولا يربطهم بالعرب - البربر سوى تاريخ الاستعباد."
وأودّ أن أقول بداية، بأنني أتفق مع ما ذكر الأستاذ إبراهيم من خصوصيّةٍ للحراطين، ثقافةً وهوية قومية وحياة اجتماعية، مختلفة عن العرب والبربر والأفارقة في هذه الربوع، وفِي غيرها. ولكنني في إطار مقارنة لحراطين بالأفارقة الأمريكيين "African-American"، والتعليق الدائر حول هويتهم، أُسجِّل الملاحظات التاليّة:
أولا، يُفترض أن يكون هناك شيء من التحفُّظ من مقارنة لحراطين، وما نريد لهم ونحلم به تجاههم من عدالة وتنمية وإنصاف، مع حال الأفارقة الأمريكيين. لما لهذا الحال من جوانب قصور هيكلية عميقة، معروفة من قبل الجميع. وقد زار الأستاذ الولايات المتحدة واطلع على ذلك عن قرب. حيث إنهم -برأيي-، تاريخاً استعباديا وواقع حريّة، ليسوا أول مثال تُبتغى منه الإفادة. بل هو كنموذج يستحضره المحافظون واليمينيّون لتطبيع الظلم والتهميش والتنميط الثقافي أقرب منه إلى مصدر الإلهام والاتّباع الذي يُبرزه أنصار العدالة.
وعلى كل حال، فهوية الأفارقة الأمريكيين الآن في شكلها الأساسي (و لا أتحدث عن الانتماء العرقي) هي الهوية الوطنية الأمريكية، بدينها المسيحي وثقافتها الأنجلو-أمريكية ورموزها وتاريخها الوطني بكل تفاصيله المظلمة والمضيئة، رغم ما طبع مسار التحرّر من العبودية في الولايات المتحدة من عنف وحراك شعبي ثوري، على عكس البرازيل ومنطقة الكاريبي البريطانية.
وأعتقد بأن أبرز الإشكالات الحاصلة في نقاش هوية لحراطين الآن ناتجة عن طرح الهوية السياسية إلى جانب الهوية القومية والثقافية، وتداخلهم عند العديد من المشاركين في هذا النّقاش. وهذا ما سيجعلني أركز بداية على الشق السياسي والوطني في هوية الأفارقة الأميركيين، للفت الانتباه إلى التمايز في هذا الموضوع.
فمثلاً، وعلى الرّغم من الموروث الاستعبادي الفظيع للقاادة التاريخيين لأمريكا، بما في ذلك "القادة المؤسّسين" (توفي جورج واشنطن، الرئيس الأول للولايات المتحدة، وله 317 من العبيد، حسب المؤرخين)، إلا أنه لا يمكن الآن لأي حقوقي أو سياسي أمريكي جاد أن يتناول هؤلاء القادة بالتجريح، أو يحاول محاكمتهم أو محاكمة تاريخهم على أساس مقتضيات الحاضر.
وتُقاس على ذلك أنماط التديّن؛ فقد كانت الكنائس، وخاصة في الجنوب الأمريكي، يُجلب إليها العبيد ليقفوا خلف صفوف الأسياد ويستمعوا إلى الوعاظ يحثونهم على طاعة مُلّاكهم، ومنعَ بعض البيض عبيدهم من تعلّم القراءة واعتناق المسيحية خوفاً من أن يفسّروا تعاليمها بأنها تعطي حق المساواة، في ما استخدم آخرون فقرة الإنجيل المشهورة في "الفقه الاستعبادي المسيحي"، بأن كل صاحب بشرة داكنة (سوداء) يمتلك روحاً سوداء كذلك، من أجل تبرير ممارسة هذه الجريمة... وعلى الرّغم من كلّ ذَلِك، لم يكن يوما ما التطرق لهذه القضايا الدينية الحسّاسة جزءا من النقاش العام، وظلّ طرحها شبه محصور على الدّارسين والباحثين.
ومع أن هناك من المؤرخين من يرى بأن الحضور النسبي لتنظيم "أمة الإسلام" Nation of Islam بين الأفارقة الأمريكيين كان نكاية واحتجاجاً على دين الأسياد المسيحي، الذي لم يقف في وجهه استعبادهم، إلا أن الهوية التي تمسّكت بها الغالبية، وناضلت من خلالها من أجل التحرّر ظلّت -كما ذكرت- وطنية مسيحية أمريكية محلّية. وأمة الإسلام التي تعتبر أهم اتجاه أفرو-أمريكي حاول أن يتمايز بهوية مستقلة، كان مصيرها التراجع والذوبان مع الوقت في المجموعة الأكبر.
فلا تقبل الدول الحديثة في الغرب عموماً من منتسبيها إلا بدرجة كبيرة من تبني الثقافة المحلية كهويّة وإيديولوجية فكرية مسيطرة "Culturalism". ومن هذا المنطلق، كما هو معلوم، تأتي أهم أوجه معاناة المسلمين في الولايات المتحدة والغرب. في ظل امتلاكهم هويّة خاصّة، فشلت معها محاولات الاستيعاب (الامتصاص) داخل النمط الثقافي والسياسي والاجتماعي الغربي.
أما كون العبيد السابقين في الولايات المتحدة "أفارقة أمريكيون" أو سود أمريكيون كما يفضّل الكثير منهم، فذلك نقاش حديث جداً (منذ عقود قليلة). وهو سياسي المنطلق والنتائج، كهذا النقاش الحاصل الْيَوم في موريتانيا، وليس بالضرورة هو الواقع السوسيولوجي والهوياتي الحقيقي. وأهم ما وصل إليه من تبنٍّ لهذه العبارة 1988، عندما استخدمها المناضل الحقوقي والقس جسي جاكسون في خطاب له أول مرّة، هو أنه أعاد، سيّاسيا فقط، تعريف الانتساب العرقي، دون أن يحقّق في موضوع الهوية الثقافية والقومية أي شيء.
وهنا أعود لأؤكّد بأن التعرض للاستعباد وحده لا يعني انتماءً ثقافياً وهوية مخصوصة، كما أشار الأستاذ محمد جميل منصور. وفِي بعض المجتمعات العربية والزنجية داخل حدودنا وفِي الدول المجاورة مثال على ذلك، كما ذكر. وربما يكون في المجموعات التي مارست العبودية من لحراطين أنفسهم المثال الأوضح. وأن التعريف ب "أفارقة سود موريتانين" وإن كان جامعاً نسبيا فهو ليس مانعاً بما فيه الكفاية. فلا الإفريقية صفة مخصوصة لهذه الفئة دون غيرها من الموريتانيين، ولا السواد سمة لهم مستقلّة. وتعاني عبارة "الأفارقة الأمريكيين" من هذا القصور الدّلالي كذلك، كما يُثار بشكل متكرّر.
أما في ما يتعلّق بالهوية الثقافية والقومية للحراطين فهي هوية واضحة المعالم لكل منصف. وانتساب لحراطين فيها يجب أن يكون للحراطين، وكفى. وله ما يبرّره من ثراء فني وثقافي واجتماعي خاص وعريق. ومن تمايز عن بقية المكونات العربية والبربرية والزنجية، هم به مختلفون عن حال العبيد السابقين في هذه المجتمعات العربية والزنجية والغربيّة.
وفِي هذا المجال القومي والثقافي بالذّات يحضر المثال الأمريكي، الذي يمكن أن يُستفاد منه. حيث إن طبيعة "الهوية" الأمريكية الحالية، والتي تشكلت جذورها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تحتفي بالاختلاف الثقافي بشكل كبير. فتعدّد المواطن الأصلية للمهاجرين البيض، وثقافاتهم المختلفة، وعوامل الهجرة والنزوح، وما تبعها من رفض عنيف ل "الفدرالية" خوفاً على الخصوصية الذّاتية المحلّية، أدّى إلى خلق ثقافة وهوية جامعة تثمّن الاختلاف القومي والثقافي الخاص وتحتفي به. وقد رسّخوا ذلك في المدارس والجامعات (ك Diversity Day أو Heritage Day) وفِي الحياة العامّة.
وهذا النموذج الأمريكي له جوانب يمكن لنا وللدّول ذات التعدّد العرقي والثقافي والفئوي أن نستفيد منها بدون شك. فبعد الانتساب الوطني الموريتاني الإسلامي الجامع، الذي يجب أن يكون هو الهوية الأبرز لساكنة هذا البلد، فإن الهويات الثقافية والقومية لجميع الفئات الاجتماعية يجب أن تكون مصدر ثراء وتنوّع، وأن تُبرز وتثمن ويُعلى من شأنها. وخاصة الهويّة القومية للحراطين بشكل خاص، لما تعانيه الْيَوم من تهميش وطمس، هو بالأساس جزء مما تعرّضت، وتتعرض، له هذه الفئة من ظلم وحرمان وعدم إنصاف.
بقلم: عبد الله بيّان