المناضل ببكر ولد مسعود
تحت ظل شجرة في حقل من حقول الأرز في شمامة وبمنطقة تويكندي بالتحديد قرب مدينة روصو، ولد بوبكر ولد مسعود سنة 1945.
تربى بوبكر مع أخواله في تلك الحقول الواقعة على الضفة اليمنى لنهر السنغال، كانت والدته أمَة كغيرها من الإماء تعمل بدون مقابل لأسيادها، وذات بوتةٍ انتشر وباء فتاك في المنطقة وأصيبت احدى نساء أسياده بالوفاء، ولأن الأسياد يعزلون عادة المرضى في مكان منفصل مخافة انتقال العدوى لباقي أفراد العائلة، ويعزل معهم عبيد لخدمتهم. قام الأسياد بعزل والدتة الأمَة مع سيدتها المُصابة، فماتت الأم وتيتم بوبكر الذي ذاق بدوره مرارة العبودية، كان يقوم ببعض الأعمال الشاقة لأسياده، كان يرعى الغنم ويجلب الماء ويقوم بكثير من الخدمات المنزلية.
دخل بوبكر إلى المدرسة سنة 1952 بمحض الصدفة عندما كان يسير يوما بجانب حائط المدرسة في طريق العودة من حقول الأرز إلى المدينة، وهو يحمل فوق رأسه بطيخة، لاحظ بوبكر تجمع عدد كبير من الأطفال أمام مبنى المدرسة وقاده فضول الأطفال وبراءتهم لمعرفة ماذا يجري. كانت إدارة المدرسة الفرنسية تقوم بتسجيل الأطفال للعام الدراسي الجديد، تعرف على أحد أولياء التلاميذ خلال مروره بجانب المدرسة، وكان من «أسياد» أخواله، وطلب منه تسجيله في القسم فرفض، فأخذ بوبكر يبكي. وخلال بكائه مر بجانبه مدير المدرسة الفرنسي، الذي ما زال بوبكر يتذكر اسمه جيدا حتى اليوم وهو "جولي"، فأمر بتسجيله فورا في القسم الابتدائي الأول، الشيء الذي سيصنع من بوبكر رجلا آخر حرا.
وفي القسم «الداخلي» بالمدرسة حيث أصبح يسكن منذ دخوله المدرسة، أحس ببعض الأمان، ففي تلك الفترة كان الأسياد يبيعون العبيد لقبائل «الرقيبات» التي تقطن في الشمال ويقولون إنهم سرقوا.
وفي عام 1964 حصل بوبكر على شهادة الدروس الإعدادية و أرسل إلى مدرسة المهندسين الفرنسية في باماكو، حيث مكث هناك حتى عام 1967 وحصل على منحة لدراسة الهندسة المعمارية في موسكو. وبقي بوبكر في الاتحاد السوفياتي السابق سبع سنوات وعاد إلى بلاده عام 1974 مهندسا معماريا ليعمل في شركة «سوكوجيم» للبناء التابعة للدولة، وهو الذي صمم المخطط العمراني لحي «سوكوجيم» الشهير بالعاصمة.
وبالرغم من دراسته الهندسة واهتماماته المعمارية، إلا أن بوبكر طور اهتماما مبكرا بقضية العبيد والعبودية، وخلال دراسته في موسكو تعرض لضغوط قوية بسبب إثارته القضية في اجتماعات الطلاب، وهدد بالطرد أكثر من مرة، مما دفع السفير الموريتاني لدى الاتحاد السوفايتي السابق إلى استدعاء الشاب المعجب بسيرة المناضل الأميركي الأسود "مارتن لوثر كينغ" وتهديده بإرجاعه إلى موريتانيا إذا ما استمر في الحديث عن مسألة الرق في موريتانيا عند البرانيين.
لكن الشاب غير الخائف لم يرتدع، وظل مهتما بقضية العبودية على المستويات النظرية والعملية.
يقع العبيد في قاع الهرم الاجتماعي ويرفض معظم العرب والزنوج الموريتانيين زواج بناتهم من العبيد أو «الحراطين» حتى ولو كانوا متعلمين ويشغلون مراكز مهمة في الدولة.
وسط هذه الوضعية الاجتماعية، تطور وعي بوبكر بقضية العبيد، وأدرك انه لابد من منظمة تعمل من أجل تغيير الأفكار والممارسات.
وفي عام 1978 تخلى بوبكر عن وظيفته في القطاع العام وأسس مع زوجته الإيطالية مكتبا للدراسات ورفض عروضا بالمساعدة من أسياد أخواله لأنهم حسب تعبيره «إقطاعيون يفرضون على أهلي منحهم حصة كبيرة من حصاد الحقول التي يكحون الدم من أجلها».
في نفس السنة، أسس بوبكر حركة «الحر» مع مثقفين وسياسيين من فئة العبيد المحررين من بينهم مسعود ولد بولخير ، وكان تأسيس حركة «الحر» عام 1979 تتويجا لسنوات طويلة من النضال السري ضد العبودية، بيد أن الحركة اصطدمت بالنظام العسكري الاستثنائي الذي قام في موريتانيا بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق المختار ولد داده مؤسس الدولة الموريتانية الحديثة.
لم تمهل الديكتاتورية العسكرية بوبكر ورفاقه طويلا فقد نفذت الأجهزة حملة اعتقالات في صفوف قيادات وكوادر حركة «الحر» وأحالتهم إلى محكمة عسكرية في مدينة روصو، المعبر الحدودي الرئيسي بين موريتانيا والسنغال. وبعد المحاكمة العسكرية المثيرة للجدل لقادة حركة «الحر» عام 1979 اضطرت الحكومة العسكرية الحاكمة أمام ضغط حركة «الحر» إلى إصدار قانون جديد بإلغاء الرق وينص على تحرير جميع العبيد في البلاد وتعويض ملاكهم.
وفي عام 1981 عين بوبكر مستشارا فنيا لوزير الإسكان والعمران لوليد ولد وداد الذي أمضى عشرين عاما مديرا لديوان الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع واتهمه البعض بخرق حقوق الإنسان.
وفي عام 1986 أصبح بوبكر مديرا عاما لشركة «سوكوجيم» للتسيير العقاري، لكن وحتى وهو يتنقل بين الوظائف والمناصب الحكومية لم يتخل بوبكر يوما واحدا عن قضيته الأولى وهي محاربة العبودية، وكان في جميع مراحل حياته وحتى في أحلك فترات حكم العسكر (1978-1992) يوزع المنشورات والمطويات ويحرض ضد العبودية التي كانت منتشرة على نطاق واسع في بوادي ومناطق معزولة من البلاد.
وشهر يونيو 1992 أسس مع قادة ونشطاء في مختلف التيارات السياسية الموريتانية الجبهة الموحدة للتغيير «افديك» كما وقع على رسالة مفتوحة تطالب الرئيس ولد الطايع بالتنحي عن السلطة وبإقامة نظام ديمقراطي تعددي.
وقد استشاط القصر غضبا وطرد بوبكر من منصبه واعتقل مع جميع مؤسسي الجبهة الموحدة للتغيير، بيد أن الضغط الذي نتج عن تأسيس الجبهة أجبر ولد الطايع في نفس السنة على الإعلان عن مشروع دستور جديد تعددي يفتح المجال أمام التعددية الحزبية وحرية الصحافة.
وبعد إقرار الدستور في استفتاء شعبي عام، أسس بوبكر مع سياسيين آخرين «حزب اتحاد القوى الديمقراطية» الذي ظل حزب المعارضة الرئيسي في عهد الرئيس ولد الطايع قبل أن يتم حله بقرار سياسي.
واعتقل بوبكر مرة أخرى في يناير 1992 بعد صدامات دامية بين أنصار المرشح الرئاسي أحمد ولد داده والشرطة في مدينة نواديبو التي شهدت انتفاضة دامية بعد تزوير السلطات نتائج انتخابات الرئاسة لصالح ولد الطايع.
وبالرغم من كل المحطات المهمة السابقة، يبقى 16 فبراير 1995 أهم محطة في تاريخ هذا الرجل الخمسيني الذي اشتعل رأسه ولحيته شيبا، ففي هذا اليوم أسس بوبكر جمعيته الحقوقية «نجدة العبيد». يروي بوبكر الظروف التي صاحبت تأسيس الجمعية فبالإضافة إلى الإحساس بالظلم فقد الثقة بجميع مؤسسات البلاد الأمنية والتشريعية والقضائية، فهي بالنسبة له تعمل على تكريس العبودية وتتواطأ مع أسياد العبيد. ويقول:
«راودتني فكرة تأسيس المنظمة لأول مرة صيف عام 1993 عندما سافرت إلى جنيف للادلاء بشهادة أمام لجنة الأمم المتحدة المكلفة بحقوق الإنسان عن ممارسة العبودية في موريتانيا، وهناك لفت انتباهي عمل منظمات حقوق الإنسان الدولية المشاركة في الاجتماع، فقررت تأسيس جمعية لمناهضة الرق في بلدي».
ويتصدر أهداف «نجدة العبيد» تحرير العبيد السود الفقراء الذين ما زالوا تحت نير العبودية في البوادي والأرياف البعيدة ومكافحة ظاهرة الرق بجميع أشكالها في أنحاء البلاد، والجمعية بالإضافة إلى ذلك تراقب الوضع العام لحقوق الإنسان في موريتانيا وتصدر تقريرا سنويا عن حالة حقوق الإنسان في البلاد. كما تقوم بكشف «حالات الرق» التي تصل إليها وقد تبنت جميع قضايا الرأي وتابعت عن قرب جميع المحاكمات السياسية التي جرت خلال السنوات الأخيرة ودافعت عن معتقلي الرأي في سنوات الاستبداد السياسي.
وبسبب الكشف عن هذه الحالات وتقديمها لوسائل الاعلام، سجن بوبكر خلال عام 1998 وسجن ثانية في ديسمبر 2002. وحوكم إلى جانب مناضلين حقوقين
حين سئل ببكر ولد مسعود متى شعر فعلا أنه مستعبد؟
رفع رأسه وتنهد طويلا قبل أن يقول:
عند ما تم عزل والدتي مع سيدتها المريضة..
وفي المدرسة أيضا حين كنت ألقب (بوبكر لعبيد) لتمييزي عن تلميذ آخر من أبناء أسياد العبيد يحمل نفس الاسم.. بوبكر.
ورغم جراح السنين والماضي الأليم لم يحمل ببكر أي حقد أو ضغينة، ولم يخلط بين خصوصية تلك المرحلة التاريخية المؤلمة، وتوقه إلى بناء مجتمع عادل تحكمه المواطنة ويسوده السلم الأهلي.
شفى الله المناضل ببكر ولد مسعود شفاء لا يغادر سقما.
كامل الود
نقلا عن صفحة العملاق اكس ولد اكريگ