ليس هذا المقال بحثا في موضوع مضغته العجول والنقول والعقول عبر تاريخ الأمة بقدرما هي ملاحظات عامة على هامش تلك المتون والسجالات تحاول أن تتوصل إلى خلاصة تسع الجميع وتنافح عن طائفة من الأمة كلما شبت أزمة في سياق معرفي أو فكري معين انهالت عليها الضربات وتناوشها الأقوام من كل جانب وطعنوها "طعن المبيطر إذ يشفي من العضد" و كأنها سبب تأخر الأمة وويلاتها وما هي كذلك وما هو لها بخلق. أومن أن النقاش العقدي ينبغي أن يظل بعيدا عن الواجهة فليس المطلوب منا معاشر العامة غير الإيمان الفطري وما يعززه مما في القرءان الكريم والسنة النبوية الصحيحة وما تلحظه عقولنا البسيطة في الكون أما المعضلات المعقدة فهي غير مرغوبة أصلا في العقيدة ولا تزيد في الإيمان وتركها لا ينقصه لكن إن أثيرت من قبل البعض لا مناص من مطارحتها وتوضيح ما ندين الله به في الموضوع. في هذا السياق يتنزل هذا المقال بعد أن سمعت ملاحظات متعددة بخصوص منهج الأشاعرة العقدي فلا تعدو الأشعرية أن تكون فقط تعامت مع سياقات تاريخية معينة انطلاقا من ضوابط لغوية وشرعية أملتها ظروف التلاقي الفكري والمعرفي مع أقوام أتوا من حضارات مختلفة حملوا معهم ألوانا من أبعادها الفكرية والثقافية وبالتالي لم تعد الأمور كما كانت في عهد ووسط أمة نزل القرءان الكريم بلسانها وخاطبها بلغتها ومن هنا يمكن يمكن النظر إلى مقولات الأشاعرة التي يحوم البعض حولها ولعل أبرز نقطتين تطالهما تلك السهام في دائرة الأشعرية هما: أولا: التأويل : لا يخلف خصوم الأشعرية موعدا عن الحديث عن تأويل الأسماء والصفات الذي تبناه الأشاعرة إلا وسلقوا القوم بألسنة حداد وصالوا وجالوا في مفردات" البدعة " و"الضلال" والزيغ" حتى يقول المتلقي "ليتهم سكتوا" والواقع أنه بعين المتبصر الهادئ لا المتعصب الهادر يمكن فهم هذه الزاوية لمن ألقى السمع وهو شهيد فلم يلجأ الأشاعرة للتأويل في بعض الصفات على هوى من زيغهم بل على هدى من ربهم فالتأويل بمعنى من المعاني إعطاء معنًى لقول لا يبدو فيه المعنى جليا ..فالمدار في التأويل على أن المعنى الذي تتلقفه الأذن ويلامس بادي السماع ليس مقصودا والمعروف أن لغة العرب وبلاغتهم تعتمد بالأساس على "التأويل" بمعنى من المعاني فلم يكن خطابهم دائما مباشرا ولم تكن أساليب لغتهم التي نزل بها القرءان الكريم تعتمد على تجنب "التأويل" بل كان ذلك مبلغ البلاغة كما هو معروف.. وشتان بين ثنائهم بالقول " جواد" وبين" كثير الرماد" " وبين ذمهم بقولهم بخيل وبين قولهم تنبح كلابه الضيوف" ولم يكن يدور بخلدهم أي تصور على الظاهر حيما يقولون في نشوة شعرية " فإنك شمس والملوك كواكب" هذا هو مدار السياق اللغوي للتأويل أما الشرعي ففي الحديث القدسي المعروف " عبدي مرضت فلم تعدني" فيقول العبد كيف أعودك وأنت رب العالمين.. فالجلي من السياق أن "العبد " فهم استحالة الأمر إن أجراه على ظاهره لذلك استشكله وجاء التوضيح من رب العالمين "تأويلا" " بمعنى تحويل المعنى عن سياقه العادي إلى سياق مناسب " أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده " ولم يرد أن فعل هذا "العبد" كان اعتراضا على الله تعالى أو تحريفا لقول الحق سبحانه وتعالى وهكذا يمكن إجراء هذا الاستفهام من "العبد" على الصفات والأسماء المماثلة عند اللزوم ..ولا قائل بأنه "مرض" يليق بجلاله أو جوع" يليق بجلاله" تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. لذلك لزم التـأويل ثم إن الجميع يؤول قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم " وجر الباء هنا وعدم جرها في غيره عند الاقتضاء غير مقنع وستكون إشكالية الإجراء على الظاهرة معقدة حينما نتأمل قوله تعالى "كل شيء هالك إلا وجهه" فدلالة الاستثناء معروفة.. فلو سلكنا مهيعهم لقلنا بمفهوم مخالفة لا قائل به البتة وستنهار ذلك التوجه . واتكاء على هذا المعطى اللغوي المألوف في لغة القوم والمستند الشرعي الصحيح سلك الأشاعرة نهج التأويل في الأسماء والصفات فلم يأتوا إذن "ببدعة ..و فاحشة من نحو فعلة ماعز" وهنا أشير إلى للأشاعرة طريقتين في التأويل الأولى هي التفويض والتسليم وهي "الأسلم" كما نصوا عليه في متونهم ولا خلاف أنها منهج سلف الأمة ومن يتذوقون البلاغة العربية ولا يجدون حرجا في عدم إجراء الدلالة على الظاهر وهذا التفويض مع عدم التمثيل والتكييف "تأويل" في حد ذاته " لأنه صرف للفظ عن دلالاته التي تعود عليها الذهن و تقتضيها اللغة المألوفة قد يقول قائل وهذا هو المنهج الذي تدعو له السلفية المعاصرة والجواب أن الأمر غير ذلك والطريق ليس هنالك عند التأمل فما يبدو من خلال مقولاتهم انغامسهم في الحمل على الظاهر ولذلك لبعضهم عبارات من قبل "يدان حقيقيتان" ولم يرد عن أحد من سلف الأمة هذا التعبير. فلو التقى الطرفان على أن التفويض يعني ألا تخوض فيها وألا تجعل ظاهرها مرادا لاسترحنا من كثير من الشد والجذب الثانية" هي التأويل التفصيلي ولم يقل الأشاعرة إنه ملزم لجميع الأمة بل رأوا أن السياق اللغوي للغة العرب يعززه ويوقره وأن ذلك التأويل التفصيلي إنما جاء وفق تلك الضوابط اللغوية لا اعتمادا على هوى أو خبط عشواء .. وقد كثر الحديث عنه في سياقات تاريخية معينة كثرت فيها المدارس الكلامية التي شوشت على الذهن العربي الصافي .. فليس الأمر ملزما وليس بدعا أيضا إذا الأمثلة السابقة تشد أزره ..فالشطط في انهم مثل اليهود قيل لهم قولوا " حطة" فقالوا حنطة" مغالاة فلا تناسب بين الحطة والحنطة دلالة وبلاغة بخلاف العلاقة بين دلالة اليد و القدرة في اللغة مثلا وغيرها .. فمهلا بني عمنا ثانيا: الدليل العقلي ولدت الأشعرية من رحم المدارس العقلية التي كانت منتشرة ووفدت إلى حضارة العرب من حضارات أخرى استلهم المسلمون علومها وطوعوها لثقافتهم فكان منها ما أفاد ومنها ما شكل "شبهات" اقتضت مواجهتها بالأسلحة ذاتها في حدود المسموح به شرعا ولغة والقول بأن الدليل العقلي لا حاجة إليه مطلقا في أي سياق قول مثقوب القربة فحتى القرءان الكريم نفسه والذي هو الحجة النقيلة الواضحة ورد فيه تعزيز الحجج بالأدلة العقلية في قوله تعالى" لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وهذا خطاب عقلي لمن يصل مرحلة التأمل تلك ..وهو مستند جواز أو ضرورة اللجوء للأدلة العقلية عند الحاجة والحاجة فقط. .من هنا يمكن القول إن بعض مافي الإضاءة والوسيلة ليس فرض عين وبعضه أضحى من تاريخ الفكر الإسلامي وقد جدت شبهات تتطلب النظر من زوايا أخرى وأبعاد أخرى ..فلكل زمن لغته وأساليبه وقضاياه الملحة.. فدعونا نتفق على أن تلك الأدلة العقلية المبثوثة في كتب القوم ليست فرض عين يجب على كل مسلم أن يقرأها ويعيها وإلا كان ناقص الإيمان وأنها مع ذلك كانت تسلك النهج المناسب وما كان منها قابلا للاستفادة منه في الحاضر فحيهلا. والناظر لتلك الأدلة العقلية التي طفحت بها كتب القوم يلحظ أن أغلبها كان "مرحليا" بمعنى أنه يأتي في سياق محدد لإزالة ومحاورة أصحاب شبهات محددة وبالتالي أضحى جزءا من تاريخ "الفكر الإسلامي" تفخر به الثقافة الإسلامية باعتباره شكل عمادا قويا في وقته ومنها ما هو "دليل" تتفق العقول عليه لادين له إنما ورد سلما للتوصل لنتائج محددة..وقد يكون بعضهم تساهل في جعله جزءا من العقيدة العينية ولكنه ليس القول العام.. بل حقيقته أنه يناسب "الخاصة" أو بالتعبير المعاصر" الدارسين "والباحثين" فقط وليس مطلوبا من كل مسلم أن يتفقه فيه ويعرفه ..فهذا من تكليف الناس ما لم يأذن به الله تعالى فحتى أولئك الذين يعتبرون الأشاعرة أفرطوا في الـتأويل والأدلة العقلية وأنهم بذلك خالفوا نهج سلف الأمة لم يحترموا منهج سلف الأمة بإرغام كل مسلم على أن يغوص في دوامة نقاش هذه الأمور وجعل كل فرد لابد أن يطلع على هذه الأسماء والصفات ويعدها ويعرف ضلال المخالفين في حين أنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الصحابة كل يوم بالأسماء والصفات ويوضح لهم كيفية التعامل معها ولم نتلق أنه كان يصفهم طوابير فيسألهم أين الله؟ حتى يطمئن لإيمانهم يجب العدل في الأمور والاحتكام للنهج السوي.. فلا الدليل العقلي التفصيلي واجب التعلم ولا ركن من العقيدة ولا الخوض فيها باستمرار ومحاولة شحن الأذهان بتلك الصفات وشغل الناس بضرورة التعامل معها بالتفصيل وارد. ففوض فذلك اسلم.. وأول عند الضرورة وفق الضوابط المعروفة ..ولنترك العوام في حضن عقيدة غير معقدة ..والله من وراء القصد