هناك صعوبة في فهم أحداث اللحظة! من الصعب جدا أن يجد المتابع للشأن العام في أيامنا هذه خيطا ناظما يجمع بين الأحداث الأخيرة، ومن الصعب عليه كذلك أن يجد أجوبة متماسكة منطقيا يمكن تقديمها للقراء للرد على الأسئلة التي تطرحها تلك الأحداث، والتي اتسمت في مجملها بالغموض وبالخروج عن دائرة المنطق والمعقول. لماذا قُطِعَ الانترنت لأسبوع كامل؟ هل عرفت البلاد في الأيام الأخيرة انقلابا فاشلا يستدعي كل هذا الاستنفار العسكري؟ ماذا يُراد من وراء فتح ملفات فساد في الوقت بدل الضائع؟ لماذا هذه النبرة الحادة في خطابات بعض المترشحين الخاسرين؟
(1) لم يفكر الرئيس ولد عبد العزيز في قطع الانترنت خلال عقد كامل قضاه في الحكم، لم يفكر في قطع الانترنت خلال مسيرات الرحيل، ولا عند إصابته في أطويلة برصاصات صديقة، ولا يوم قُتل متظاهر أمام أسوار القصر الرئاسي في الاحتجاجات المنددة بحرق المصحف الشريف، ولم يفكر في قطعه بعد الانفلات الأمني الذي استمر ليومين كاملين بسبب الاحتجاجات على قانون السير، فلماذا قرر ولد عبد العزيز أن يقطع الانترنت الآن؟ صحيحٌ أنه حدثت أعمال شغب محدودة بعيد الإعلان عن النتائج، وصحيحٌ أيضا أن ذلك الشغب شارك فيه أجانب، وهم يستحقون ـ في كل الأحوال ـ أقسى أنواع العقاب، ولكن الصحيح أيضا أن أعمال الشغب تلك لم تكن ـ لا جغرافيا ولا من حيث طول النفس ـ بالحجم الذي يستحق قطع الانترنت وإعلان حالة شبيهة بحالة الطوارئ. وحتى ولو افترضنا جدلا بأن الأجهزة الأمنية حصلت على معلومات شبه مؤكدة بوجود مخطط يشارك فيه أجانب لإثارة الشغب بعيد الإعلان عن نتائج الانتخابات، حتى ولو افترضنا جدلا ذلك، فإن الشيئ المؤكد هو أن ذلك المخطط قد تم إفشاله في وقت مبكر، أو على الأقل،، فذلك هو ما يقوله الإعلام الرسمي في تقاريره اليومية. فلماذا يتم الاستمرار في قطع الانترنت وفي إعلان حالة الطوارئ، وذلك في الوقت الذي يكرر فيه الإعلام الرسمي بأن الوضع تحت السيطرة وبأن الهدوء يعم أرجاء الوطن؟ لماذا هذا التناقض الفاضح بين الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن الهدوء والسكينة، وقطع الانترنت واستنفار الجيش وإعلان حالة طوارئ التي توحي بأن الأمور في البلاد قد خرجت عن السيطرة؟
(2) يقول المنطق السليم بأن التسامح والتصالح والتهدئة هي أمور تطبع في العادة لحظات الوداع، وإذا ما سلمنا بذلك المنطق، فقد كان يُفترض بالرئيس ولد عبد العزيز أن ينشغل في أيامه الأخيرة في الرئاسة بتهدئة الأوضاع مع خصومه في المعارضة، لا بزرع خلافات وخصومات مع أقرب المقربين منه سياسيا واجتماعيا.
لا أحد يمكنه أن يُصدق بأن هناك صحوة ضمير في الأسابيع الأخيرة، وبأن هناك جدية في فتح ملفات فساد في الوقت بدل الضائع، فلماذا قرر ولد عبد العزيز أن يفتح ملفات فساد في اللحظات الأخيرة من فترة حكمه؟ ولماذا قرر أن يكون من بين ضحايا هذا الملف مديرة سابقة للتلفزيون مقربة منه اجتماعيا، وليست هي الأكثر فسادا من بين كل الذين تولوا تسيير مؤسسات عمومية أو شبه عمومية؟
ولماذا تم وضع آخر المتبقين قرب ولد عبد العزيز من كتيبته البرلمانية في وضعية حرجة أجبرته في النهاية على تقديم استقالته؟
(3) إن الغموض في أيامنا هذه ليس حكرا على السلطة وقراراتها، فمواقف المعارضة تتسم كذلك بشيئ من الغموض، ولعل من أبرز تجليات ذلك الغموض هو تلك الحدة التي ظهرت مؤخرا في خطابات اثنين من المترشحين الخاسرين : محمد ولد مولود وسيدي محمد ولد بوبكر. فلماذا هذه الحدة؟ ولماذا هذا الخطاب المتطرف الرافض للاعتراف بالنتائج من شخصيتين وازنتين كنا نظنهما هما الأكثر اعتدالا في فسطاط المعارضة؟ فهل هذه الحدة جاءت كردة فعل عابرة على الصدمة من النتائج، ذلك أن المرشح سيدي محمد ولد بوبكر كان يتوقع أن يحل ثانيا وبنتيجة تزيد على 20% فإذا به يأتي ثالثا وبنتيجة لا تصل إلى 18%، أما المرشح محمد مولود فقد كان يتوقع نتيجة معتبرة فإذا به يحصل على نتيجة أقل من 3%.
مهما يكن من أمر، فإنه كان على المترشحين الخاسرين أن يبحثوا عن الأسباب التي جعلتهم يحصدون نتائج دون المتوقع، وكان عليهم أن يستعدوا للاعتراف بالنتائج إذا ما أقرها المجلس الدستوري، خاصة وأن المرشحين الخاسرين لا يملكون أدلة مقنعة على حدوث تزوير واسع من شأنه أن يؤثر بشكل جوهري على النتائج، هذا إذا ما استثنينا إمكانية حصول ولد بوبكر على الرتبة الثانية بدلا من بيرام، ومثل ذلك قد يثير المزيد من الشحن العرقي. وحتى ولو افترضنا جدلا بأنهم يملكون أدلة من شأنها أن تنزل بالمرشح غزواني عن نسبة 50%، فما أهمية تنظيم شوط ثان سيؤدي حتما إلى فوز المرشح الذي يمتلك نسبة تقترب كثيرا من 50%؟ لن يكون لهذا الشوط الثاني من أهمية سوى أنه سيزيد من عمق الشرخ بين مكونات المجتمع، وسيزيد من التخندق على أساس عرقي وشرائحي خلال ذلك الشوط. على المترشحين الخاسرين أن يعلموا جيدا بأن المزاج العام للشعب الموريتاني قد مل من التأزيم والتوتير، وبأن المواطن الموريتاني يطمح في أيامنا هذه إلى فترة من الهدوء والاستقرار بعد عقد كامل من التأزيم ومن التجاذبات العدمية بين السلطة والمعارضة، وهو ـ أي المواطن الموريتاني ـ إن دُعي اليوم إلى مسيرات واحتجاجات لتأزيم الأوضاع فإنه لن يستجيب، ولتجربوا دعوته إذا ما أردتم أن تتأكدوا من حقيقة ملله وعزوفه.
إن هذه اللحظة ـ يا مرشحينا الذين لم يحالفهم الحظ في الفوز ـ ليست هي اللحظة الأنسب لتأزيم الأوضاع، بل إنها لحظة للتهدئة والانفتاح، خاصة وأن المرشح الفائز قد ابتعد في كل مهرجاناته عن تخوين المعارضة، بل إنه عبر في أكثر من مرة عن استعداده للتحاور والانفتاح على الجميع. لا يعني هذا الكلام ـ بأي شكل من الأشكال ـ بأنه على المعارضة أن تتوقف عن معارضة الرئيس المنتخب، بل إنه من واجبها أن تعارضه وبقوة، وعليها أن تذكره في كل حين ببرنامجه الطموح، وبما تعهد به للشعب الموريتاني..على المرشحين الخاسرين أن يواصلوا معارضتهم للرئيس المنتخب، ولكن ذلك لا يعني بأن عليهم أن ينشغلوا في أيامنا هذه بتأزيم الأوضاع أو بإرباك عملية الانتقال السلس للسطلة.
(4) هناك صعوبة كبيرة في فهم أحداث اللحظة، تلك حقيقة يجب أن نكررها في كل حين، ولكن، وإذا ما اكتفينا بما يطفو على السطح من أحداث، فسنجد بأن هناك انسجاما وتناغما في المواقف بين طرف في المعارضة يعمل الآن على التشكيك في فوز الرئيس المنتخب، وطرف آخر في النظام يعمل على سرقة الفرح بانتصاره من خلال قطع الانترنت وإعلان حالة الطوارئ وإدخال البلاد في أجواء من القلق والارتباك لم تعرفها من قبل.
(5) في العام 2007 فاز المرشح سيدي ولد الشيخ عبد الله في انتخابات كانت سليمة من الناحية الفنية، وذلك على الرغم من تدخل بعض أعضاء المجلس العسكري لصالحه. كان سيدي ولد الشيخ عبد الله رجل انفتاح وحوار ومع ذلك فقد ظل زعيم المعارضة حينها الرئيس أحمد داداه يرفض اللقاء به، وظلت المعارضة في مجموعها تعمل على تأزيم الأوضاع . وفي الطرف الآخر كانت هناك جهات تعمل داخل النظام من أجل تأزيم الأوضاع أكثر، فكانت احتجاجات الجوع والتي أدت إلى وفاة شاب في كنكوصة. لقد وقعت المعارضة حينها في خطأ قاتل عندما تحالفت ـ دون وعي منها ـ مع طرف في النظام كان يعمل من أجل الحد من صلاحيات الرئيس، بل وإسقاطه إن استدعت الظروف ذلك، وهو الشيئ الذي حصل في صبيحة يوم السادس من أغسطس من العام 2008.
لنختم هذا المقال بهذه الطائفة من الأسئلة: هل كان من الأفضل للمعارضة في العام 2007 أن تخفف من درجة الاحتقان بعد انتخاب الرئيس سيدي؟ وهل كان من الأسلم لها أن تمد يد العون له حتى يتمكن من تثبيت حكمه؟ ألم يكن ذلك أفضل للمعارضة من انشغالها بتأزيم الأوضاع وبإرباك المشهد وبالدخول دون وعي في أجندة أطراف في النظام كانت تخطط في تلك الفترة للحد من صلاحيات الرئيس المنتخب والإطاحة به إن اقتضى الأمر ذلك؟ أيهما كان على المعارضة أن تدعمه وتمد له يد العون: الرئيس سيدي رغم ما شاب انتخابه من تدخل للمجلس العسكري أم الجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي كان يعمل على إضعاف الرئيس المنتخب والانقلاب عليه إن اقتضى الأمر ذلك؟ حفظ الله موريتانيا..
نقلا عن صفحة الكاتب محمد الأمين ولد الفاظل