لجنة المسابقات والقرار المصيري "تجربة شخصية"
في مثل هذه الأيام -على ما أذكر- من عام 1999، أعلنت جامعة نواكشوط عن مسابقة لاكتتاب مجموعة من الأساتذة في مختلف التخصصات كان من ضمنهم - على ما أذكر، أربعة أساتذة لمادة القانون بمختلف تفرعاته كان هناك مقعد من بين الأربعة مخصص للقانون المالي باعتباره فرعا من فروع القانون العام الداخلي. ولأني كنت من دارسي القانون العام، ولأن الشرط الرئيسي في المتقدم هو حصوله على شهادة ماجستير فما فوق، ولأن موضوع رسالتي للحصول على شهادة الدراسات المعمقة من تونس -المعادلة قانونا لشهادة الماجستير- كان حول الرقابة القضائية على المال العام، ولأن المسابقة كانت قائمة على الاختيار بين أفضل الملفات المقدمة "Sélection des dossiers" مما يعني النظر فقط إلى الشهادات الجامعية ومعدلات التخرج وإفادات الخبرة وتزكيات الأساتذة، وليس إلى وسامة المتقدم، ولأني كنت شابا يافعا، طموحا وواثقا من نفسي ومن نزاهة اللجنة المشرفة على المسابقة، ولأني كنت أبلهاً إلى حد كبير، قلت في نفسي: ومن لها غيرك أيها الفتى المحظوظ. أعددت ملفي وضمنته ما تيسر مما خف وزنه وصعب الحصول عليه من أوراق ومستندات كان من بينها: إفادة من مدير شؤون الطلبة بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة تونس، تفيد بأنني كنت الأول على دفعتي، إفادة تعاون مع جامعة نواكشوط لمدة سنتين كأستاذ مساعد، وإفادة من الأستاذ المشرف على أطروحة الدكتوراه تفيد بوصول الأطروحة إلى مراحلها الأخيرة وقرب مناقشتها، إضافة إلى أن موضوعها يخدم نفس الاختصاص المطلوب. بعد اكتمال تقديم الملفات ومعرفة المترشحين وشهادات كل منهم - ولأني كنت ابلها- كانت مسألة فوزي بالمقعد مسألة وقت بالنسبة لي حيث لم يتقدم للفرصة من هو أعلى شهادة مني. كان عدد المترشحين للمقعد أحد عشر شخصا معظمهم من خريجي معهد جامعة الدول العربية في مصر، وهناك – على ما أذكر- مترشحان من خريجي المملكة المغربية، ومترشح متحصل على نفس شهادتي من تونس، لكن رسالة تخرجه كانت متعلقة بالنظام السياسي الموريتاني، وهو أمر بعيد عن القانون المالي، مما يعني تقدمي عليه حسب التخصص المطلوب. كان شغلي الشاغل طوال فترة انتظار قرار اللجنة هو معرفة راتب الأستاذ الجامعي وكيفية توزيعه على المتطلبات الضرورية وإمكانية الادخار منه لشراء السيارة وغيرها مما يحتاجه أستاذ جامعي له مكانته في المجتمع. نعم، قلت لنفسي لا بد من شراء سيارة، لقد كان منظر بعض الأساتذة الجامعيين حينها غير لائق مطلقا وهم ينتظرون -على قارعة الطريق – وصول الباصات المتهالكة عل أحد أصحاب المروء من الطلبة يتنازل عن مكانه لأحدهم كي لا يظل واقفا ينزلق يمنة ويسرة كلما عرج الباص العتيق أو قفز في الهواء جراء المرور مسرعا على إحدى الحفر التي تغطي ما كان ذات يوما طريقا معبدا. قلت في نفسي، أنا أحسن حظا من غيري فأخي تاجر سيارات مستعملة، يستجلب ما استنكف المواطن الأوروبي المدلل عن استخدامه من سيارات ويأتي بها ليتلقفها متوسطو الدخل باعتبارها غنيمة كبرى. نعم، لن أرضى أبدا بإحراج أحد طلبتي ليترك لي حياء مكانه من الباص المتهالك. مرت أيام وأيام وصدر قرار اللجنة الوطنية للمسابقات، لا أتذكر من أخبرني به، المهم أنني علمت ولم أعرف بعد نتيجته. وصلت إلى حيث علقت النتيجة لأتلقى أقوى صفعة في حياتي، أحسست كأن دلوا من الماء البارد اندلق على كتفي. كان ترتيبي الثاني من بين المترشحين الأحد عشر حسب معايير الاستحقاق التي وضعتها اللجنة للملفات المقدمة إليها، مما يعني أن الاختيار قد وقع على لمحظوظ صاحب المركز الأول الذي كان أحد الإخوة خريجي معهد جامعة الدول العربية. حاولت امتصاص الصدمة بكل ما أوتيت من جلد وقوة تحمل، واتخذت لحظتها قرارا مصيريا كان له الأثر الحاسم بعدها في مستقبلي العملي. لقد قررت ان أن لا تكون لي مستقبلا أية صلة بالوظيفة العمومية في ذلك البلد الذي أحسست انه اغتصب حقي المشروع. حملتني قدماي بصعوبة إلى حيث قدمت منذ البداية ملفي الذي كان يضم أصول الشهادات كما هو مشروط في الإعلان. دخلت على الموظف وكان رجلا وقورا يستعد لدخول العقد السابع من عمره وقلت له دون مقدمات : إسمي فلان، وأريد أن أسحب ملفي الأصلي، فتش قليلا بين أوراقه وقال وهو يحمل الملف: ولكنك ناجح احتياطي وقد يتم استدعاؤك في أي لحظة، كما أن لديك أولوية في التعيين إن حصل واكتتب أساتذة آخرون وهو ما قد يحدث خلال شهور حسب معلوماتي. قلت له بكل حزم أريد ملفي الأصلي الآن، ابتسم وقال لدي حل وسط، سأعطيك الملف الأصلي وأحتفظ بنسخة منه لعل وعسي ، قلت له : لن أترك لي أي أثر في هذه المؤسسة، مد إلى الملف مبتسما وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله. لملمت أوراقي وما بقي طموحي وآمالي وخرجت من بوابة رئاسة الجامعة، وتعلقت في ذيل أول باص متهالك توقف لي ولا أذكر هل إلى الشرق كان اتجاهه أم إلى الغرب، فكل ما كان يشغلني أن أبتعد عن ذلك المكان الذي ذبحت فيه أحلامي دون ان يذكر عليها اسم الله. أجل، بكل بساطة خرجت من هناك ولا أذكر أنني دخلت رئاسة الجامعة بعد تلك اللحظة إلى يوم الناس هذا. كنت بعد ذلك بسنين، كلما الجأتني الطريق إلى المرور من امام رئاسة الجامعة -لست أدري هل ما زالت في نفس المكان أم انتقلت- انظر من خلال زجاج السيارة دخاني اللون، فأرى الجموع من الداخلين والخارجين فأتساءل: ترى كم من هؤلاء ذبحت أحلامهم هنا ومن منهم سيتخذ قرارا ثوريا بالذهاب وعدم العودة. ختاما أقول: صدقوني إنني لم أندم على ذلك القرار الذي اتخذت قبل عشرين سنة خلت، فنحن نعلم ما نحب، لكننا لا نعلم ما فيه مصلحتنا.
عبد الله محمد أمون