تحتل قضية تحديد مطالع الشهور الهجرية ودور الحساب الفلكي فيها حيزًا لا بأس به في الأبحاث الفقهية المعاصرة. ونشأت هذه القضية في الأصل من الزعم بأن الحسابات الفلكية قد بلغت حدًّا من “اليقين” و”القطعية” يجعلها تناظر “الرؤية البصرية” في حجيتها المعرفية كدليل أوحد لاستطلاع أهلة الشهور الهجرية. وقد أنتج هذا الزعم بقطعية ويقينية الحساب الفلكي خلافًا بين الفقهاء في مشروعية الرجوع للحساب الفلكي لتحديد صحة الرؤية البصرية للهلال من عدمها، أو لاتخاذ ذلك الحساب وسيلة لاستطلاع الأهلة يمكن من خلالها الاستغناء عن الرؤية البصرية، بَيْدَ أن هناك مشكلة رئيسية تحتَفّ بهذه القضية الشائكة؛ هذه المشكلة تتعلق بالأنموذج الفلكي الخاص بالنظام الشمسي والذي تعتمد عليه الحسابات التي يتحدث عنها الفقهاء ويتنازعون فيها، فالأنموذج الفلكي للنظام الشمسي تطور بشكل جِذري خلال الثلاثة عقود الأخيرة، وجماع هذا التطور عائد إلى العلماء الأوربيين والأمريكيين والروس بلا منازع، لكن التطورات التي لحقت بالأنموذج الفلكي للنظام الشمسي لم تبلغ الوعي العربي بعد، كغيرها من مكتسبات العلوم الحديثة التي تفصلنا عنها مئات من السنين، لاسيما مع بقاء جامعاتنا ومعاهدنا في العصر الجليدي من حيث البحث العلمي وتطوير مناهج التعليم وطرق التدريس.
وهذا المقال يعرض بعض التطورات الرئيسية التي لحقت بالأنموذج الفلكي للنظام الشمسي، والجديرة بهدم قضية النزاع بين “الحساب الفلكي” و”الرؤية البصرية” إلى الأبد!
حينما نتأمل الأبحاث الفقهية العربية التي تناقش الحساب الفلكي وحركة القمر والأرض بالنسبة للشمس نكتشف أن الصورة التي تحتل العقل العربي المعاصر عن “النظام الشمسي” هي بلا شك الصورة (الكوبرنيكية/النيوتونية) -نسبة إلى “نيقولا كوبرنيكوس” و”إسحق نيوتن”- والتي تدور فيها الكواكب وما يتبعها من أقمار في مدارات محكمة منتظمة وثابتة حول الشمس التي هي تلك الكتلة الهائلة من الغازات الملتهبة ذات الموضع الثابت بالنسبة لكواكب النظام، والتي جعلها الله تبارك وتعالى مصدرًا للحرارة والطاقة لهذه المجموعة من الكواكب، وحيث ترتبط هذه الكواكب بروابط محكمة ثابتة بحيث يمكن حساب مداراتها ومواضعها باستمرار من خلال “قوانين نيوتن للحركة والجاذبية”، وهذه الصورة لم تكن موجودة بذلك الوضوح في العصور الأولى للإسلام، فاقتصر اجتهاد عموم الفقهاء آنذاك على اعتبار أن “الرؤية البصرية” للهلال هي المعيار الأوحد لبداية الشهور الهجرية؛ أما بعد الثورة العلمية التي حدثت في الغرب، وصياغة منهج البحث العلمي “الإمبريقي”(1) . وقد سادت “الصورة الكوبرنيكية” التي تزامنت مع بَدء الثورة الأوروبية على “الكهنوت الكنسي” الذي عطل التطور الحضاري في القارة العجوز لقرون طويلة. هذه الصورة انتقلت مع غيرها من مكتسبات العلم التجريبي إلى العقل المسلم من خلال التلاقح المعرفي الذي صاحب عصر الاستعمار الأوروبي الذي بلغ أوجه في القرن التاسع عشر، وهذه “الصورة الكوبرنيكية” هي التي حتَّمت على العقل المسلم إعادة النظر في ما يتعلق بالتقويم الهجري، وكيفية إثبات دخول الشهور فيه.
تطور فلسفة العلوم وانهيار مبدأ حتمية القوانين الطبيعية
إن فهم جذور قضية “الحساب الفلكي” يتطلب منا التطرق إلى التطور التاريخي لمدارس فلسفة العلوم، حتى يمكننا إدراك فداحة الموقف الإسلامي المعاصر من هذه القضية، وغيرها من القضايا المتعلقة بالفيزياء الفلكية وعلم الكونيات.
من المعروف لدى المهتمين بنظرية المعرفة أن منهج البحث العلمي التجريبي له عدد من المدارس الفلسفية يطلق على النسق المعرفي الخاص بها “فلسفة العلوم”، حيث تهدف كل من هذه المدارس إلى تحديد دور العلم التجريبي في بناء الحضارة الإنسانية، ووضع محدِّدات للماهيات والدلالات المتعلقة به، كالتجربة والحقيقة والنظرية والخطأ …إلخ. كانت المدرسة السائدة إبان عصر التنوير والنهضة العلمية في أوروبا هي “التجريبية”(2) ، والتي سرعان ما تطورت إلى “الوضعية”(3) ، وقد كانت كلتا المدرستين تؤمنان بحتمية القوانين الطبيعية أو ما نسميه اختصارًا بمبدأ “الحتمية”(4) ، وينص هذا المبدأ على “وجود علاقة تلازم بين الأسباب والنتائج”، بحيث إنه إذا تكررت نفس الأسباب تحتم تَكرار نفس النتائج، وإن كان بلغ هذا التكرار عددًا لانهائيًّا من المرات، وأدى إيمان هذين المدرستين الفلسفيتين بالحتمية إلى اعتقاد أن الكون يسير وَفقَ قوانين رياضية ثابتة لا تتغير، وبات دور العلم التجريبي هو التوصل لهذه القوانين بطريق التجربة والاستقراء، وتمت صياغة نظريات رياضية وفيزيائية تنبع من الإيمان بالحتمية، ومن ضمن ذلك النظرية التي صاغها “السير إسحق نيوتن” عن كواكب النظام الشمسي ومداراتها وحركتها، لكن “نيوتن” نفسه لاحظ اختلاف بين مواضع الكواكب كما يحسبها من خلال نظريته وبين مواضعها الحقيقية كما يرصدها، وأرجع “نيوتن” ذلك الاختلاف آنذاك إلى [تدخل الإله لتغيير مدارات الكواكب بين الحين والآخر]!
كان اكتشاف الجزيئات ووضع النظرية النسبية في بداية القرن العشرين هو البداية الحقيقية للانهيار التام للحتمية، فبعد عدة سنوات قضاها أعضاء “دائرة فيينا” وأتباع “إرنست ماخ” في البحث عن بدائل للحتمية، جاء “أينشتين” ليحطم حتمية النظرة النيوتونية لقوانين الثقالة والحركة، واقترح في نظريته النسبية ثبات سرعة الضوء، ونسبية حركة الكواكب والنجوم، ووضع تصورًا مختلفًا تمامًا للكون -تم إثباته تجريبيًّا فيما بعد- فاتضح من ذلك أن العلاقات الرياضية التي تتم صياغتها لكي تصف التفاعل بين الأسباب والنتائج ليست علاقات حتمية! ثم تحطمت حتمية القوانين الطبيعية تمامًا على يدي كبار فلاسفة العلوم في القرن العشرين مثل: “كارل بوبر”، و”فيرنر هايزنبرج”، و”آرثر إدنجتون”، و”إيليا بريجوجاين”. كان انهيار الحتمية هو بداية الثورة العلمية للقرن العشرين، هذه الثورة التي من خلالها اكتشفنا أن الذرة تحتوي على أكثر من ثمانية عشر جُزيء بدلاً من ثلاثة! واكتشفنا أنموذج أكثر واقعية لبنية النظام الشمسي والكون بشكل عام! واستطعنا بها توليد الطاقة النووية، وبناء أنظمة الاتصالات الخلوية، وإرسال أقمارها الاصطناعية إلى الفضاء!
بعض ملامح الأنموذج المعاصر للنظام الشمسي
لكي نتصور حجم التناقض والفجوة المعرفية الضخمة التي تفصل تصورنا -كمسلمين- للنظام الشمسي عن التصور الغربي المعاصر، والذي يعتبر أكثر دقة بلا أدنى شك، نستعرض بعض نتائج الأبحاث التي توصل إليها العلماء الغربيون خلال العَقد الأخير، ونقتصر في هذه النتائج على ما يختص بالشمس والأرض والقمر؛ إذ إن تحديد أوائل الشهور الهجرية منوط بهذه الأجرام. في عام 2009م نشر فريق من علماء الفيزياء الفلكية في جامعة كارديف بالمملكة المتحدة بحثًا أثبتوا فيه أن ثَمة “حركة ارتجاجية(5) تصاحب الشمس في رحلتها حول مركز المجرة”[1]، فهذه الحركة الارتجاجية تهدم التسليم بثبات الشمس نسبيًّا بالنسبة لكواكب النظام الشمسي وأقمارها. وفي الحقيقة فإن الجديد في هذا البحث كان محاولة تحليل هذه الحركة الارتجاجية؛ لأن حركة الشمس في حد ذاتها معروفة منذ عقود طويلة، حينما أدخل الفلكيون تصحيح النسبية على حسابات نيوتن، وحينما حددوا مركز ثقل النظام الشمسي(6)، والذي يبعد عن المركز الهندسي للشمس بمسافة متوسطها حوالي 30 ألف كيلومتر! وهذا المركز دائم الحركة بحسب حركة كواكب النظام الشمسي، فإن اصطفت الكواكب ذات الكتلة الكبيرة في جانب من جوانب مداراتها حول الشمس تحرك ذلك المركز لكي يكون في هذا الجانب، وإن توزعت بشكل شبه متساوٍ تحرك هذا المركز لكي يقترب من المركز الهندسي للشمس، وفي أثناء كل ذلك “ترتج” الشمس حول ذلك المركز! يقول البروفيسور “باري جونز” في بحث حديث له نشر في عام 2008م[2]: “إن هذا المركز لا يغادر طبقة الكورونا(7) الخاصة بالشمس في أغلب الأحوال، والحركة المستمرة لهذا المركز تجعل الشمس تدخل في حركة ارتجاجية متابعة بصفتها أحد أجرام المجموعة الشمسية، أو أكبر جِرم فيها”.
ولكي نتخيل التعقيد الذي تتصف به حركة الشمس نتيجة الحركة المستمرة لمركز دوران المجموعة الشمسية يمكننا أن نتأمل الشكل رقم (1)، والمقتبس من بحث “جونز” المذكور آنفًا:
شكل (1)
مسار الشمس في حركتها الاضطرابية حول مركز المجموعة الشمسية خلال الفترة 1980م إلى 2050م كما ينتج من المشاهدة والتوقع الرياضي
يوضح الخط المستمر في الشكل (1) الحركة الاضطرابية للشمس(8) حول المركز الدوراني للمجوعة الشمسية، والنقاط الموجودة على ذلك الخط توضح المواقع المحسوبة للشمس في أعوام مختلفة، بينما يمثل الخط المتقطع الحركة الاضطرابية للشمس في حالة أنه لا يوجد في المجموعة الشمسية سوى كوكب المشترى، وحينئذ تتحرك الشمس في مدار دائري حول ذلك المركز، لكن نظرًا لأن هناك عددًا من الكواكب الأخرى فيتحرك مركز المجموعة الشمسية في شكل بالغ التعقيد، ومن ثَم تتحرك الشمس في المسار الموضح، ولكي يتمكن القارئ من تخيل مسار مركز المجموعة الشمسية بالنسبة للشمس نعرض عليه الشكل رقم (2)، والذي يوضح موقع المركز الدوراني للمجموعة الشمسية بالنسبة لنواة الشمس خلال نصف القرن الماضي:
شكل (2)
حركة المركز الدوراني للمجموعة الشمسية بالنسبة لنواة الشمس تبعًا لتغير مواقع أجرام المجموعة الشمسية
تمثل الوحدات الموضحة على محوري الشكل (1) المقياس الزاويّ لموقع الشمس في السماء، كما يمكن قياسه من الأرض، ووحدة القياس الموضحة هي واحد من المليون من الدرجة الزاويَّة، وهي مقدار ضئيل جدًّا إن قارناه بالحركة اليومية الظاهرة التي تتحركها الشمس في السماء (180 درجة)، لكن هذا المقدار لا يعتبر ضئيلاً في ظاهرة كونية معقدة كانعكاس ضوء الشمس على سطح القمر، ثم ارتداده إلى نقطة معينة على سطح الأرض في الثواني القليلة التالية للحظة الاقتران والتي يُعنى بها القائمون على حساب إمكانية رؤية الهلال، ذلك بالطبع إن أخذنا في اعتبارنا دوران القمر والأرض حول مركز دورانهما المشترك الذي يقع في المتوسط على بعد 4700 كم تقريبًا من المركز الهندسي للأرض.
من الضروري أيضًا أن نتعرض بشيء من الإيجاز لأحدث ما توصلت إليه الأبحاث العلمية بشأن حركة الأرض، فالمعروف لدى الأغلبية الساحقة من المجتمعات الإسلامية والعربية أن الأرض تتحرك حركتان:
الأولى: حول محورها، وينتج عنها الليل والنهار.
الثانية: حول الشمس -أو حول مركز ثقل النظام الشمسي كما علمنا الآن- وينتج عنها التغير الفصلي المناخي.
إن الثابت علميًّا الآن أن هناك حركة ثالثة تتحركها الأرض وهي “الحركة الإيمائية(9)”، وهي حركة بالغة التعقيد، وخاضعة من عدة أوجه للحسابات المستمدة من نظرية الفوضى(10)، كما أثبت ذلك عالم الفلك الفرنسي “جاك لاسكار” في بحثه الذي نشره في عام 1989م في مجلة “نيتشر” العلمية الرصينة[3]، والذي أثبت فيه “أن تأثير الحركة الإيمائية للأرض يساهم بمقدار لا يمكن إهماله على تغير مدار الأرض حول الشمس، وهو تأثير فوضوي، أي أن الخطأ في تحديد تلك الحركة بدقة متناهية قد ينتج عنه عدم إمكانية تحديد مكان الأرض حول الشمس على مدى فترات زمنية متباعدة”. وثَمة دراسات عديدة منشورة في دوريات علمية محكمة ومتخصصة في الفيزياء الفلكية وعلوم الفضاء تتحدث عن الحركة الفوضوية للنظام الشمسي، وما تم اكتشافه حديثًا من أن تلك الحركة تخضع لنظرية الفوضى مثل: المقالات [3-7]. وعلى هذا فيمكن القول بأن الحسابات الفلكية التي تفتقر إلى اعتبار الأجرام الفلكية الصغيرة نسبيًّا(11) في إجراءاتها تعتبر حسابات ذات دقة محدودة[8]. هذه المقالات يمكن للقارئ المتخصص الرجوع إليها للاستزادة، أما هذه الحركة الإيمائية للأرض فلها أهمية بالغة في التنبؤ بإمكانية الرؤية للقمر من على سطح الأرض.
إن الأبحاث التي أجراها “ج. لاسكار J. Laskar” وزميله “م. جاستينو M. Gastineau” خلال الثلاثة أعوام الأخيرة جديرة بالتأمل في سياق الحديث عن الحركة الفوضوية للنظام الشمسي، فمن خصائص الحركة الخاضعة لنظرية الفوضى أن تلك الحركة تعتمد اعتمادًا فائق الحساسية على الظروف الأولية(12)، فقد قام العالمان “لاسكار” و”جاستينو” بإجراء محاكاة عددية(13) دقيقة لحركة النظام الشمسي للتنبؤ بـ2500 “سيناريو” محتمل في المستقبل إذا اختلف موقع كوكب عطارد مترًا واحدًا في بداية الحركة في كل حالة من الحالات الألفين والخمسمائة، فكانت النتيجة أن عطارد في 20 “سيناريو” من مجموع 2500 يدخل في مدار فائق الخطورة، بحيث ينتهي به الأمر مصطدمًا بالزهرة أو مندفعًا بقوة داخل الشمس! وفي الحالات العشرين كان عطارد يؤثر بقوة على مدارات الكواكب الأخرى للمجموعة الشمسية، بحيث يخرج بعضها من مداره كما تنبأت المحاكاة في إحدى الحالات باصطدام المريخ بالأرض كنتيجة لخروج عطارد من مداره[9]، فأثبت عالِمَا الفيزياء الفلكية بهذا البحث الرائد أن أجرام المجموعة الشمسية تخضع لنظرية الفوضى، وتم لهما ذلك الإثبات بتجسد أهم خصائص تلك النظرية في حركة المجموعة الشمسية، ألا وهي خاصية “الاعتماد فائق الحساسية على الحالات الأولية”16. ويمكن تمثيل الحركات المختلفة لمحور الأرض وللأرض حول محورها بالشكل (3):
شكل (3)
رسم توضيحي مبسط للمكونات الحركية الأربعة للحركة الاضطرابية للأرض
فالحركة الأساسية التي تعتمد عليها الحسابات الفلكية هي الحركة الدورانية (د) أما الحركات الترددية (ت) والإيمائية (إ) والقطبية (ق) فجميعها لا تدخل في الحسابات الفلكية المتاحة في برامج الحاسوب الفلكية التي يستخدمها الفلكيون العرب.
وفيما يلي نستعرض بشيء من التبسيط العلمي بعض التفاصيل المكتشفة حديثًا والتي ماتزال قيد الدراسة والبحث فيما يختص بالحركات الثلاث المذكورة:
الحركة القطبية هي حركة (شبه عشوائية) لمحور دوران الأرض حول نفسها بالنسبة للقشرة الصلبة للأرض، وهي من أخطر المقدمات -المهملة في الحساب الفلكي- تأثيرًا على نتائجه المتعلقة بإمكانية رؤية الهلال أو عدمها، فهذه الحركة لها ثلاثة مكوِّنات رئيسية: اثنان لهما طابع شبه دوري(14)، والمكون الثالث للحركة هو انجراف تدريجي لجهة الغرب، فالمكونان الأول والثاني لحركة محور دوران الأرض بالنسبة للقشرة الأرضية يرجعان في حقيقة الأمر -وبحسب ما اكتشفه العالم الفلكي الأمريكي الشهير “ريتشارد جروس” في عام 2001م- إلى اضطرابات الضغط ودرجة الحرارة ودرجة الملوحة بقِيعان المحيطات والبحار، وإلى التأثيرات المحيطية المرتبطة بحركة الرياح داخل الغلاف الجوي للأرض[10]؛ يقول البروفيسور “ريتشارد جروس” في خلاصة البحث الذي أعلن فيه عن ذلك الاكتشاف: “بالرغم من أن حركة (شاندلر) الاضطرابية(15) لمحور الأرض خضعت للدراسة منذ ما يقرب من قرن من الزمان إلا أن آلية تحفيزها ماتزال غامضة”، إلى أن يقول: “إن المعلومات الرياضية التي بُني عليها هذا البحث من سنة 1985م إلى سنة 1996م تقود إلى أن هذه الحركة التمايلية قد تم تحفيزها بمزيج من عمليات الطقس والتغيرات في قِيعان المحيطات، بحيث يمكن القول بأن المكون الأكثر تأثيرًا في هذا المزيج التحفيزي هو تغيرات الضغط المتفاوتة في قِيعان المحيطات”. أ.هـ.[10].
الخلاصة
بات من المؤكد أن أي حديث عن الحساب الفلكي انطلاقًا من الأنموذج (الكوبرنيكي/النيوتوني) لا يعدو أن يكون مزحة طريفة بعد اكتشاف العشرات -بل وربما المئات- من النتائج والخصائص الجديدة للنظام الشمسي خلال العقود الثلاثة المنصرمة، وأصبح مصطلح “الحساب القطعي” الذي يحمل في طياته صورة حتمية لقوانين رياضية “كاملة” و”ثابتة” مصطلحًا يعكس قدرًا هائلاً من الجهل بتطور فلسفة العلوم الطبيعية خلال المائة عام الأخيرة!
إن منهج البحث العلمي في الفيزياء النظرية والفلكية وعلم الكونيات يعتمد اعتمادًا محوريًّا في يومنا هذا على “اللاحتمية” كنسق فلسفي يحكم النظريات والأطروحات والنتائج التي يتوصل إليها العلماء كل يوم -بل كل لحظة- والتي أصبحت متسارعة بفضل الحواسب فائقة السرعة والمناظير الفضائية التي تم وضعها في أماكن مختلفة داخل النظام الشمسي باستخدام سفن فضاء بالغة التقدم، وتتدفق منها الصور الطيفية والقياسات في كل لحظة لكي تحظى بحفاوة بالغة من جيوش من العلماء والطلاب والباحثين الذين لا هم لهم سوى استطلاع الجديد فيما يختص بالنظام الشمسي وحركته.
من الضروري أن نسلم أن هناك بونًا شاسعًا بين حساب: “مكان القمر في الفضاء” بالنسبة للأرض والشمس، وبين حساب: “إمكانية رؤية هذا القمر من على نقطة محددة فوق سطح الأرض”؛ إذ إن الضوء المنعكس من على سطح القمر يمر بظروف متعددة (ظاهرة الاستطالة – انكسار وتشتت وانعكاس في الغلاف الجوي)، وهذا يجعل من المستحيل الجزم بالتلازم بين وجود القمر في مكان مناسب وبين الإمكانية العملية للرؤية.
إن النتائج التي توصل إليها علماء الفيزياء الفلكية خلال العَقد الأخير -التي تؤكد خضوع الشمس لحركة عشوائية نتيجة حركة مركز الثقل للنظام الشمسي- تجعل من المستحيل ضبط الحساب -حتى باستخدام أقوى الحواسب- وذلك نظرًا لفقدان أي تحديد دقيق للظروف الأولية التي تؤثر كليًّا في هذه الحركة العشوائية، كذلك فإن النتائج التي تؤكد أن مدار القمر يتأثر -تبادليًّا- بالظروف المناخية و”الهيدروليكية” للمحيطات والبحار على سطح الأرض، واتفاق ذلك مع المركبات الحركية التي ماتزال غامضة للأرض -مثل حركة “شاندلر” الاضطرابية، والحركة الإيمائية والقطبية- تجعل من المستحيل الجزم بأن دقة الحساب “قطعية” لا على المستوى النظري الرياضي ولا على المستوى الفلسفي المعرفي.
حتى عند إهمال كل هذه النتائج الجديدة -على سبيل الفرض الجدلي بالطبع- تظل هناك العديد من المشاكل المتعلقة بالحساب، والتي لخصتها إحدى الدراسات المنشورة على موقع قسم الدراسات الفلكية بمرصد البحرية الأمريكية، والخاضع لإشراف وكالة “ناسا” لأبحاث الفضاء[11]، والتي جاء فيها: “بالرغم من أن تحديد تاريخ ولحظة ولادة الهلال الجديد ممكن بدقة عالية، إلا أن تحديد إمكانية رؤية هذا الهلال مسبقًا تعتمد على الكثير من العوامل المعقدة ولا يمكن حسابها بدقة، فإذا أهملنا كل العوامل المتعلقة بانكسار وتشتت الضوء، ونظرنا إلى الموقف من خارج الغلاف الجوي سنجد أن حجم وبريق الهلال الجديد يعتمد بشكل أساسي على “استطالة الهلال”، وهي المسافة الزاوية الظاهرة بين مركز القمر ومركز الشمس، وهي تسمى أحيانًا “قوس الضوء”، فإذا استطعنا معرفة قيمة الاستطالة عند أية لحظة؛ يمكننا حساب عرض الهلال عند هذه اللحظة بشيء من الدقة، ومن ذلك يمكننا أن نُقَدِّر إمكانية الرؤية. المشكلة أن الاستطالة تعتمد على عدة عوامل من الصعب -أو ربما من المستحيل- تحديدها كلها بنفس الدقة عند لحظة من اللحظات؛ وهذه العوامل هي:
1- قيمة الاستطالة عند لحظة ولادة الهلال: حيث إن هذه القيمة يمكنها أن تتراوح من صفر إلى خمس درجات، فأي خطأ في تحديد هذه القيمة المبدئية ينتج عنه خطأ في تحديد قيمة الاستطالة في كل اللحظات التي تلي الولادة.
2- سرعة القمر في مداره: مدار القمر “إهليليجي” الشكل، فالقمر يبطئ عندما يكون قريبًا من المحور الأكبر، ويسرع عندما يكون قريبًا من المحور الأصغر لهذا “الإهليليج”، فإذا كانت ولادة الهلال عندما يكون قريبًا من المحور الأصغر سيكون معدل زيادة الاستطالة مختلف عما إذا كان القمر قريبًا من المحور الأكبر.
3- المسافة من الأرض للقمر: والتي تتغير بشكل غير منتظم لكون المدار “إهليليجيًّا”، ولكون السرعة متغيرة، كما سبق.
4- موقع المشاهد على سطح الأرض: فكل الحسابات لا تضع في اعتبارها تضاريس الأرض وتعمل على افتراض أن المشاهد يقع في مركز الأرض -أو على أفضل تقدير على خط الاستواء- ولكن وجود المشاهد في موقع مرتفع يمكِّنه من رؤية الاستطالة الضئيلة بشكل أفضل من المشاهد الموجود على سطح أقل ارتفاعًا.
إن التنبؤ بإمكانية رؤية الهلال تعتبر مسألة مثيرة؛ لأنها تتضمن في كل لحظة عددًا كبيرًا من التأثيرات اللاخطية(16)، أي أنه يوجد الكثير من العوامل التي تتغير بسرعة كبيرة وفي آن واحد، وهذه العوامل يجب حسمها بدقة متناهية للجزم بإمكانية التنبؤ، وأهم هذه العوامل هي: الشكل الهندسي والموقع اللحظي لكل من الأرض والشمس والقمر، واستطالة القمر بأبعادها، وشدة إضاءة سطح القمر لدى لحظة الولادة، ومعامل امتصاص القمر لأشعة الشمس، ومقدار تشتت الضوء المنعكس من القمر في الغلاف الجوي للأرض؛ لذلك يوجد الكثير من الأبحاث والدراسات التي تناولت هذه المسألة دون أن تتمكن من حسمها”. أ.هـ.
وعلى ذلك، فالواجب على الفقهاء إعادة النظر في قضية النزاع بين “الرؤية البصرية” و”الحساب الفلكي” لتحديد مطالع الشهور الهجرية بما تفرضه المستجدات في علمي الفيزياء الفلكية والفلك، لاسيما مع الجزم بانهيار حتمية القوانين (الطبيعية/الرياضية)، وانهيار الأنموذج (الكوبرنيكي/النيوتوني) للنظام الشمسي. والواجب كذلك على الفيزيائيين والفلكيين العرب إطلاع المجتمعات العربية وتثقيفها بكل ما يتم التوصل إليه في الغرب بشأن حركة الأرض والنظام الشمسي بشكل عام، حتى يمكن للجماهير العربية ملاحقة التطورات الشديدة التسارع في الغرب بالفهم والإدراك.
د. خالد صقر