يمتاز التاريخ بانه عادة عصي على الترويض وانه عصب الحياة بالنسبة للامم فهو ملجؤها في كل الفترات سواء فترات الرخاء والازدهار حيث يكون التاريخ قيمة مضافة جميلة او فترات الازمات فيكون حافزا للسير الى الامام بمزيد من العزم والثبات ، وقد برزت في تاريخ منطقتنا هذه نقاط مضيئة ساهمت كثيرا في تشكلها ولا شك ان تجربة المرابطين التي استمرت قرنا من الزمن وشملت رقعة جغرافية كبيرة لم تتحد قبلها تحت حكم واحد كانت تجربة رائدة جدا ومازالت تحتاج مزيدا من الدراسة والتامل .
تاسست دولة المرابطين في تيدره وهي جزيرة صغيرة قريبة جدا من اكادير احمد بزيد ، ٩٠ كلم تقريبا من انواذيبو على الساحل ، في وسط القرن الخامس الهجري، وذلك بعد طرد بعض البدو للفقيه عبد الله بن ياسين الذي جاء به الامير يحيى بن ابراهيم ليعلمهم الدين واخلاق الاسلام ، يقول الدكتور سامي النشار محقق كتاب السياسة في تدبير الامارة لابي بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرامي :"وشدد الفقيه عبد الله بن ياسين في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فنافروه وهجروه ثم تآمروا عليه مع بعض كبرائهم واتهموه بالتناقض في احكامه فعزلوه عن الراي والمشورة وقطعوا عنه مالهم ، وانتهبوا داره وهدموها واخذوا ماكان فيها . خرج عبد الله من داره خائفا يترقب الى اين يذهب ؟ ...
فجاءه يحيى بن ابراهيم وقال له : ...إن هاهنا في بلادنا جزيرة في البحر ، اذا انحسر البحر دخلنا فيها على اقدامنا ، و إذا امتلا دخلنا لها في الزوارق ، وفيها الحلال المحض الذي لا شك فيه من اشجار البرية وصيد البحر واصناف الطير والوحش والحوت فندخل فيها فنعيش فيها بالحلال ونعبد الله حتى نموت ." وتتوفر هذا المواصفات فعلا في جزيرة تيدره التي اشرنا اليها اعلاه و التي تخضع حاليا لمنطقة حوض آركين وقد صنفت منطقة تراث عالمي و يمنع فيها استعمال الزوارق ذات المحركات لاعتبارها ملجا عالميا للطيور النادرة . بعد رباطهم في تلك الجزيرة بدات الناس تتوافد عليهم بكثرة فكان ميلاد التجربة المرابطية الرائعة على هذه الربوع التي تعتبر اول تجربة ينطلق فيها الاسلام السني الصحيح من الجنوب نحو الشمال حيث انتشرت البدع والفساد والظلم في تلك الفترة في المغرب فاستنجد علماء سجلماسة في وسط الاطلس و علماء فاس ووادي درعة بالحنوب فكانت نداءات استغاثة تلقاها ابن ياسين القادم من تلك المنطقة فقد درس سبع سنوات في الاندلس وشاهد ضعف حكامها واستكانتهم ومر بحواضر المغرب فلاحظ بام عينه كيف يُسيم الحكام الشعب الضعيف الظلم وكيف انتشر الفساد وبالتالي لبى بسرعة ذلك النداء فكان بمثابة المنقذ. لقد كان هذا الغزو فتحا كبيرا جاء لاغاثة الناس ونشر التعاليم الاسلامية السمحة ونشر العدل ولم يكن مثل الغزو من الشمال الذي كان دائما لاخضاع الاقاليم ونهب مزيد من خيراتها . استمرت دولة المرابطين قرنا كاملا تركوا خلاله بصمات خالدة نذكر منها:
1- كان الملثمون المنطلقين من شواطئ تيدرة جنوب انواذيبو اول من وحّد هذه المنطقة تحت اسم المغرب الاسلامي الممتد من شمال فاس حتى تونس وغرب النيجر ونهر السنغال . ٢- تمكن المرابطون من السيطرة على الاندلس واستمرار سيطرة العرب عليها اربعة قرون اخرى وقد كانت معركة الزلاقة الحاسمة عاملا مباشرا في ذلك.
٣- ترك المرابطون آثارا خالدة وذلك ببناء المدن منها مزال قائما كمراكش ومنها ما بقيت آثاره مثل آزوكي عاصمة الجنوب التي مازالت اثارها قائمة وبها ضريح الامام الحضرمي المفتي والعالم الذي رافق بوبكر بن عامر بعد وفاة عبد الله بن ياسين .
٤- كما ان تشكل الدولة في المغرب التي تضم اقاليم متعددة كان من حسنات المرابطين فقبلها كانت مجموعة من الكيانات الصغيرة المتصارعة فكل قبيلة او عصبية عندها كيان معين. ونجد ان الموحدين الذين حكموا بعد المرابطين وجدوا دولة كبيرة لها تقاليد في التسيير عريقة .
تعتبر دولة المرابطين اهم تجربة منظمة خلال التاريخ الاسلامي في هذه المنطقة عموما وللاسف فقد مورس عليها نوع غريب من التجاهل والطمس الممنهج من الكُتاب سواء منهم اهل المشرق او اهل "المغرب" وذلك بالاضافة الى امور اخرى مهمة ربما بسبب لعنة الاطراف . ومن الغريب ان الباحث اليوم لا يجد دراسات ولا اي شيى سوى نُتف هنا وهناك عن حياة هذا الفقيه العالم رجل الدولة عبد الله بن ياسين الذي كان عالما ورجل دولة ووجد في سكان هذه الصحراء الكبرى رجالا عظاما استفادوا من علمه وفكره وكانوا على الفطرة فرفعوا راية الجهاد ونشروا الاسلام النقي ، اسلام المحجة البيضاء .
وفي الاخير فانه من نافلة القول التذكير انه في حين كان الغزو من الجنوب تلبية لصرخة من الشمال حاملا معه العلم والدين الاسلامي المالكي النقي جالبا العدل الذي استقامت به امور الناس وازدهرت فان الغزوات الكثيرة التي انطلقت من الشمال كانت دائما بهدف التوسع واستعباد الناس ونهب خيراتهم ولهذا السبب كان الفشل الذريع دائما مصيرها لان الغطرسة والتعالي مصيرهما دائما سلة مهملات التاريخ .
يقول الكاتب الانكليزي المشهور شكسبير : " ثق بأن الصوت الهادئ اقوى من الصراخ وأن التهذيب يهزم الوقاحة ."