نيويورك: خلال الشهور الأولى من أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد كانت وظيفة وزراء المالية في مختلف دول العالم هي مجرد “سد الفجوة” المالية. ولكي يبقوا على الاقتصاد حيا، كانوا يحتاجون إلى معرفة احتياجات الأشد تضررا من الأزمة ثم مؤامة ذلك مع القدرة المالية للحكومة.
ولم يكن القيام بهذه المهمة أمرا صعبا للغاية وإن كان بالغ التكلفة. ولكن وظيفة وزراء المالية الآن أصبحت مساعدة الاقتصاد في الخروج من تداعيات مرحلة الإغلاق وهي ما يمكن أن تكون أو لا تكون أقل تكلفة، لكنها مهمة أصعب بحسب ستيفاني فلاندرز كبيرة محللي الاقتصاد البريطاني والأوروبي في مؤسسة مورجان ستانلي أسيت مانجمنت لإدارة الأصول.
وترى فلاندرز في تحليل اقتصادي نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء أنه على سبيل المثال فإن وزير الخزانة البريطاني روشي سوناك يتعرض لانتقادات عنيفة لآن البعض يرى أنه بالغ في الإنفاق العام للتعامل مع تداعيات جائحة كورونا والبعض الآخر يرى أنه لم يخصص ما يكفي من الأموال للإنفاق العام في مواجهة الجائحة. والحقيقة أن كلا المعسكرين يمكن أن يكون على صواب.
فقد يقول التاريخ فيما بعد إن وزير الخزانة البريطاني بدد مليارات الجنيهات الإسترلينية في مكافأة الشركات التي أعادت توظيف العمال الذين كان قد تم تسريحهم، رغم أن هذه الشركات كانت ستعيد توظيف العمال على أية حال. في الوقت نفسه فإن تخصيصه 30 مليار جنيه إسترليني (5ر1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي) كحزمة تحفيز إضافية لم يكن كافيا لحماية التعافي الاقتصادي. وبالتالي فإن سوناك لن يكون آخر وزير مالية يكتشف أنه سيتعرض للعنة إذا فعل ذلك، وسيتعرض للعنة أيضا إذا لم يفعل.
والحقيقة أن صناع السياسة الاقتصادية في العالم يحتاجون لوضع خطة اقتصادية سليمة في هذه المرحلة لمعرفة إلى أي مدى ستتم السيطرة على فيروس كورونا خلال الشهور المقبلة؟ وما هو الحد الأقصى الممكن للناتج المحلي للاقتصاد في ظل ظروف التباعد الاجتماعي الراهنة؟
وتقول ستيفاني فلاندزر التي عملت لمدة 5 سنوات كمحررة اقتصادية في هيئة الإذاعة البريطانية قبل أن تنقل إلى مورجان ستانلي في عام 2013 إنه لا توجد إجابة لهذين السؤالين بالفعل. في الوقت نفسه فإن الطلب الاستهلاكي في الدول التي خرجت بالفعل من إجراءات الإغلاق الاقتصادي رسميا، أقل كثيرا مما يجب أن يكون عليه. فهل السبب وراء ذلك هو خوف المستهلكين من فقدان وظائفهم؟ أم خوفهم من الإصابة بالفيروس؟ ولكي يتم وضع خطة اقتصادية جيدة يجب أن تعرف الإجابة على هذا السؤال أيضا.
وترى فلاندرز أنه لكي تقدم الحكومات الدعم الفعال للعمال في مواجهة تداعيات كورونا يجب معرفة عدد الوظائف أو الشركات التي تلاشت منذ بداية الأزمة ولن تعود. ببساطة يجب معرفة حجم الأنشطة الاقتصادية التي ما زالت تستحق الحماية والدعم لأن لديها فرصة حقيقية للتعافي، وحجم الأنشطة التي تحتاج إلى إعادة إطلاق من الأساس.
والحقيقة أن الفجوة بين الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الصاعدة ستتزايد في هذه المرحلة الجديدة من الأزمة. فالدعم المالي والنقدي لدى الاقتصادات المتقدمة يناسب أو حتى يتجاوز حجم الأضرار قصيرة المدى التي لحقت بها نتيجة الجائحة. في المقابل هناك بعض الاقتصادات الصاعدة مثل الصين وإندونيسيا حققت نفس الميزة.
ولكن باقي الاقتصادات الصاعدة واجهت الأزمة وهي ضعيفة لذلك لم تكن قادرة على توفير الدعم المالي والنقدي المطلوب لمواجهة الأزمة. وبدون المزيد من الدعم العالمي للدول الصاعدة ستتحول هذه الأزمة العارضة إلى أزمة دائمة بحسب المحلل الاقتصادي بوكالة بلومبرج زياد داوود.
ومع ذلك تقول ستيفاني فلاندرز إنه حتى الحكومات الغنية ذات القدرة الكبيرة على الاقتراض من أسواق المال والتي لديها بنوك مركزية داعمة ويعتمد عليها، قد تجد الأمور قد أصبحت أكثر فوضوية من الآن فصاعدا.
ويعني هذا ضرورة التزام وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية بعدم خلق مزيد من العقبات الجديدة في طريق التعافي الاقتصادي إلى جانب العقبات التي سببتها الجائحة. ورغم أن وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لا يمكنهم مثلا الحيلولة دون تفجر موجة جديدة من العدوى بالفيروس ولا وضع الجدول الزمني لإنهاء الإغلاق والتخلي عن قواعد التباعد الاجتماعي، فإنه يمكنهم المساهمة في تحسين الأوضاع الاقتصادية أو حتى المساهمة في تدهورها.
إن التسرع في سحب إجراءات التحفيز والدعم الاقتصادي هو خطأ يجب تجنبه بحسب فلاندرز. وتشير أغلب التوقعات إلى أن اغلب البنوك المركزية ستبقي على دعمها الاستثنائي للبنوك وللاقتصاد ككل حتى نهاية العام الحالي على أقل تقدير.
وفي حين ترى بعض البنوك المركزية أن معدل التضخم سيكون أعلى مما كان عليه في أعقاب الأزمة المالية العالمية السابقة، فإن هذا التضخم الآن ليس الخطر الحقيقي، ولكن الخطر الحقيقي هو الكساد الاقتصادي.
وتتوقع أسواق المال حاليا أن يكون معدل التضخم خلال السنوات الخمس المقبلة ما بين 1 و5ر1 في المئة. ولكن انخفاض المعدل عن هذا المستوى بمقدار نقطة أو نقطتين مئويتين سيكون كارثة بالنسبة للاقتصاد العالمي، مقارنة بما يمكن أن يحدث إذا ارتفع المعدل بمقدار نقطة أو نقطتين.
في ضوء كل هذه الحقائق، فإن دول العالم ستجد نفسها خلال العام المقبل وما بعده أمام اقتصادات شديدة الاختلاف. وسيكون من المحتم أن يتجه التركيز إلى التعامل مع الآثار طويلة المدى للأزمة على ميزانيات الحكومات، وإلى مصداقية البنوك المركزية على المدى الطويل وإلى نطاق وقوة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية. في المقابل سيكون تركيز الناخبين على تقييم مدى كفاءة الحكومات في توفير الحماية للفئات الأضعف في المجتمع أثناء الأزمة.
(د ب أ)
القدس العربي