مرت سنوات عشر على الثورة التونسية وقريبا ستمر عشر سنوات على الثورة المصرية والسورية والليبية والحراكات الثورية والإصلاحية العربية التي اندلعت من المحيط للخليج. وبينما تفاجأ النظام العربي الرسمي، وخاصة الجمهوري بما وقع من ثورات وحراكات شعبية جذرية، إلا أن الشعوب العربية هي الأخرى تفاجأت بمقدرتها على تغيير قادة دول ورؤساء، بل ومقدرتها على التحكم بالمسار السياسي في بلادها وذلك بعد طول صمت واستكانة. تلك كانت البداية الخلاقة لما وقع عام 2010-2011
وبينما برزت بعد الربيع بأيام ثم بشهور أطروحة تتهم تلك الثورات بالعبثية والتأثر بالخارج، إلا أن الحقائق التاريخية والسياسية لم تجعل من تلك الأطروحة أكثر صحة من أطروحة الرئيس ترامب الأخيرة حول تزوير الانتخابات الأمريكية. فتقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة في بدايات الألفية الثانية أوضح مدى طبيعة المظالم التي يتعرض لها قطاع كبير من الشباب العربي، كما وأوضح مدى التهميش الذي يعيش في ظله المواطن العربي. بل كانت المظالم في السجون العربية وقصص التعسف والفساد وتحول سلطة الدولة العميقة وسلطة المخابرات لدولة ضمن الدولة في الدول العربية قد انتشرت على كل لسان. إن انفجار الربيع العربي عام 2010 لم يأت من فراغ. ومن يتجاهل هذا الفراغ ستفاجئه حركة التاريخ وحراكات الشعوب.
إن المفاجأة الأكبر قبل انفجار الربيع العربي كانت في مدى فشل النظام العربي رؤية حجم الغضب في قاع النظام العربي. إن حالة العميان التي سادت النظام العربي قبل عام 2010-2011 هي التي تحكمت بالنخب. فقد التهت تلك النخب في صراعاتها النفعية على النفوذ والمال، وانهمكت في حالة من حالات تعظيم المنافع الشخصية على حساب المصلحة العامة. وهذا بالطبع فتح الباب للفساد الذي يهز أركان الدول العربية ليومنا هذا.
تقرير التنمية البشرية أوضح مدى طبيعة المظالم التي يتعرض لها قطاع كبير من الشباب العربي، كما أوضح مدى التهميش الذي يعيش في ظله المواطن العربي، بل كانت المظالم في السجون العربية وتحول سلطة المخابرات لدولة ضمن الدولة في الدول العربية قد انتشرت على كل لسان
وعندما نتفحص الوضع بعد عشر سنوات سنرى أن الأوضاع اليوم أصعب من أوضاع الأمس، وأن الظروف التي أدت للربيع العربي هي اليوم أسوأ. لقد انتشرت المظالم وتضاعفت أعداد اللاجئين العرب، بينما العالم العربي يزداد تفككا وشعوبه تعيش حالة حيرة. لهذا انتقل الربيع العربي الذي عرفناه عام 2010 من الانفجار بسبب الظلم وإمكانية اصلاح النظام العربي إلى حالة جديدة أكثر عمقا وربما نضجا. لن تقع ثورة في الظرف العربي الراهن قبل أن تنضج ظروفها التي يجب أن تدفع باتجاه العدالة والتوازن وعدم تدمير الدولة بنفس الوقت. حراكات الجزائر والسودان 2019 نموذج لهذه الحالة. هناك تخوف واسع النطاق في النظام العربي من المغامرة والتسرع في ظل وجود نخب لا تحسب نتائج إطلاقها للنيران على الشعوب.
تناقضات كثيرة هي تلك التي تتجاذب الوضع العربي، ففي العالم العربي الآن دول مفككة، مرت شعوبها بحالة قمع كبيرة ثم بحروب أهلية دامية، وعانت شعوبها الأمرين من التدخل الخارجي كما حصل مع اليمن وليبيا وسوريا والعراق. وهناك دول متماسكة لازالت قادرة على تحقيق انتقال تنموي واقتصادي وأيضا دستوري كمصر والمغرب والسودان. لم تعد الحالة العربية حالة متشابهه، إذ تتجاذبها أيضا تركيا وإيران. لكن هناك بنفس الوقت ديكتاتوريات لديها مشاريع كبرى مرتبطة مؤخرا بإسرائيل، ولهذا آثار بعيدة الأمد على الوضع العربي برمته، فبينما سار قطار التطبيع على يد عدد من الدول العربية إلا أن ازمة النظام العربي تزداد عمقا وذلك بسبب عزلته عن وجدان الشعوب، وبسبب خضوعه للخارج، وبسبب مشاريع لا تصب أبدا بمصلحة تطور البلدان العربية. إن ردة الفعل على هذا الوضع قادمة هي الأخرى وتمثل عامل من عوامل المستقبل.
بعد سنوات عشر على الربيع العربي لم يحقق الربيع أهدافه، لكن الربيع لم يكن له هدف سوى العدالة والإنصاف، ولهذا فحركته كامنة في الأوضاع، في النفوس، وفي الإنسان العربي وذاكرته. إن الاعتقاد بأن تلك الذاكرة التي أشعرت الشعوب بقدراتها وعززت ثقتها بنفسها قد تضاءلت واختفت هو ضرب من الخيال. لقد دخل الربيع العربي في التاريخ العربي الحديث وأصبح جزءا من الذاكرة التي ستستعين فيها الشعوب العربية عندما تقرر النهوض والسير إلى الأمام.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت