على رسلك، أيها السرتي: داخل إحدى الحانات..
دار جدل حاد بين مجموعة من الحيوانات، سبيلا إلى إخفاء حمامة جريحة عن عيون الصقر المفترس، و بعد أخذ و رد و نقاش عقيم تدخل الحمار قائلا: ليس من عادتي ترك حمامة جريحة دون مساعدة، فأنصت الجميع لمداخلة الحمار، فأكمل قائلا: و لكنني أبرمت عهدا مع سيد الصقور يمنعني من مساعدة الحمامة.. هذه القصة، ذكرتني بموقف إسحاق "السرتي" من قضية تفيريت - أو ربما مواقفه - من معظم القضايا الوطنية، وهو يرتشف قهوته المجسمة ذات الأبعاد الثلاثة، و النكهة السقيمة على شيراتون التملق، وسط انغام سيمفونية الخطيئة.. لست هنا لاستطراد الأغبياء و المتلونين عبر التاريخ و لا من أجل استفاقة ثملٍ سكر في حانة التملق، فأنشد لسان حاله: يقول جبان القوم في حال سكره و قد شرب الصهباء هل من مبارز ربما لم تسعف أدوات الجر قاموس السرتي في النحو، ولم تكن حذاقته اللغوية كافية لتغيير أواخر الكلم، لتبقى كل محاولات الجر و التجريد، غير متوفرة الشروط، في "تفيريت" فتتحول كل مجروراته إلى نصب..
فكلها منصوبة بنزع الخافض تماما مثل انتصاب و شموخ هضابها الراسيات أما تجريدها من باقي الحركات، فهو أمر مستحيل لدى أهل اللغة و الفلسفة أو عند افلاطون على الأقل.. ليس من الغريب أن يقصر أو يتقاصر فهم السرتي لما يجري في تفيريت أو في الوطن بشكل عام، و إن أغرق الرجل و بالغ في التغابي و جاب الأقطار (ج. قطر)، و أبحر في الجزائر (ج. جزيرة) .. و تذكر المنازل فأنشد لسان حالها للمتنبي: لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت و هن منك أواهل ..
إلى آخر الابيات. بعد أن فكر السرتي و قدر ، ونظر، ثم عبس و بسر، سنحت له بعد الاستخارة التفافة مؤقتة أو تكتيكية -إن صح التعبير- في حضن جلاده، دون محاولة فهم، أو تخمين للقارعة، فبعض الوقائع و القرائن، لا يمكن تفسيرها مهما كانت قوة الاستشعار، و مهما بلغ تناقضه في اللا وعي قبل "الوعي" ولأن الأحاسيس القوية إذن هي التي تبني المواقف القوية.. والعكس صحيح.. كانت مواقف السرتي متوفرة حسب الطلب.. و المقاييس..
ولكل سعره، و خصوصياته. و بالعودة إلى الأحاسيس و الاستشعار يروى ، أن نابليون بونابرت خرج خائفا في مدريد يبحث عن ملجأ يختبئ فيه، فوجد حدادا بسيطا يشتغل في مصنعه المتواضع، فطلب منه النجدة والاستجارة فأمنه، ونام نابليون في سرير الحداد الفقير وتغطى بلحاف بسيط، وسرعان ما دخلت القوات الإسبانية تبحث عنه، فأخذ أحد الجنود سيفه وأدخله في السرير الذي ينام فيه نابليون. لحسن الحظ لم يحكم الجندي ضربته ونجا نابليون بجلده، بعد سويعة من الحادث دخل جنود فرنسا القوية إلى مصنع الحدادة للسؤال عن زعيمهم، بعدما استطاعوا السيطرة على الوضع، فخرج نابليون من مخبئه وطلب من منقذه أن يتمنى ثلاث أمنيات على صنيع فعله، فطلب الحداد أن يعطيه مالا كثيرا لإصلاح مصنعه المتواضع أولا، وطلب إليه أن يطرد حدادا جديدا بالحي لشراسة منافسته له ثانيا، فلبى له نابليون طلبيه معا بدون تردد، أما طلبه الثالث فكان عبارة عن سؤال محرج ومقلق للزعيم، قال الحداد: سيدي العظيم أود أن تخبرني عن إحساسك لما دخل الجنود الأسبان ووضعوا سيفهم بالقرب من حبل وريدك؟ فقال نابليون: يا وقح،كيف تجرأت على سؤالي، أما علمت من أكون؟ فنادى في جيشه العظيم وطلب من الجنود سجن الحداد في انتظار إعدامه في اليوم الموالي. ربط الحداد بشجرة في يوم نحره وبدأ العد العكسي لإعدامه، عد جلادوه: واحد، اثنان وقبيل لفظ الثلاثة المؤذنة بإطلاق رصاصة الخلاص، نادى مناد نابليون أن قد عفا الزعيم عليه فأمروا بعدم هدر دم الحداد، فتنفس الصعداء هو وجلادوه وقبيل الانصراف أعطاه المنادي رسالة من نابليون يقول فيها: لقد طلبت مني أن أصف لك إحساسي، فلم أستطع فعل ذلك ولكن جعلتك تحس بمرارة الحدث لأن الأحاسيس لا يمكن تعريفها ولا وصفها. تلكم إذا قفزة أحادية الظل، ثلاثية الأبعاد خطرت ببال الرجل في لحظات و جدانية صرفة، فكانت سببا في النزول سبعين خريفا في قاع الهاوية.. ولعل بعدها قفزات كما تقول ميثولوجيا البيظان.. لست ممن يملون الانتظار على مائدة الظل، ولست ممن يتسابقون إن مدت الأيدي إلى الزاد ولو انتظرت سنين طوال حتى يصل إسحاق..
النعمه ولد النونَُ